التعليم الثوري بعد عقد من الزمان
د. فواز العواد
أغسطس 29, 2021
4 دقائق
د. فواز العواد
أغسطس 29, 2021
4 دقائق
لم تكن القضية التعليمية ذات أهمية للمجتمع السوري الثائر في بداية انطلاقة الثورة، حيث كان الطلاب السوريون خلال العام الأول من الثورة يتابعون دراستهم في مدارس النظام السوري، إلاّ القليل منهم ممن توجه إلى لبنان وشمال سوريا، ولكن مع تصاعد العمليات العسكرية ضد المدنيين في المحافظات السورية وتشكيل فصائل ثورية بدأت تنتهج استراتيجية تحرير المناطق من سلطة النظام السوري، بدأت عمليات النزوح الداخلي للمدنيين من المناطق المشتعلة بعمليات مواجهة عسكرية إلى مناطق أكثر أمنا ولا تخضع لسلطة النظام السوري.
ومع تشكل أجسام للمعارضة السورية بدعم دولي، تأسست المجالس المحلية للمناطق المحررة التي أخذت على عاتقها تشكيل مكاتب للخدمات الصحية والتعليمية والإنسانية وغيرها، الأمر الذي أدّى إلى تشكيل نواة للإدارات التعليمية المشرفة على العملية التعليمية في المناطق السورية المحررة، التي اتسعت عام 2013 لتغطي مساحة أكثر من 60% ، وتكاتفت الحملات التطوعية من المعلمين الذين أدركوا خطورة الأمية والجهل على الأجيال السورية، فتشكلت الصفوف الدراسية في خيم اللجوء وفي الأقبية والملاجئ وغيرها.
لقد تعرض قطاع التعليم للاستهداف المباشر من قوات النظام السوري والروسي، فقد قصفت المدارس بشكل ممنهج وحتى رياض الأطفال لم تسلم من ذلك، واستشهد المعلمون والطلاب واختلطت دماؤهم مع كتبهم الدراسية في مجازر من أكثر المشاهد الدموية ألماً في الحرب السورية، حتى قيل أنه فقط في سوريا، ثمن التعليم أرواح المتعلمين! ، وكما خلّف هذا الاستهداف آلاف الإعاقات في صفوف المعلمين والطلاب. و حسب تقرير لمنظمة (اليونسيف)(1) تجاوز عدد المدارس، التي تعرضت للتدمير الكلي أو الجزئي، 4 آلاف مدرسة منذ منتصف عام 2011، أي ما يشكّل نحو 40% من إجمالي عدد المدارس في سوريا. وفي هذا السياق تقول الباحثة بمنظمة حقوق الإنسان هيومن رايتس ووتش (2) بريانكا موتابارثي،: “اضطر أطفال سوريا إلى مواجهة أمور ضمن فظائع الحرب لا يصح لطفل أن يتحملها ـ فقد تم استجوابهم واستهدافهم والاعتداء عليهم”.
لاشك أنّ المشهد التعليمي في الحالة السورية يجمع بين الألم والأمل، فالألم على من لقوا حتفهم وهم على مقاعد الدراسة، والألم على من تسربوا وانقطعوا عن التعليم تحت وطأة الظروف الأمنية والاقتصادية، والألم على من أصبحوا ذوي إعاقة بسبب القصف الممنهج، ومع ذلك فالأمل بعشرات الألوف من المتابعين لدراستهم تحت ظروف صعبة مناخيا واقتصاديا، يكافحون لأجل المعرفة والعلم. والأمل بطاقات شابة متفوقة وموهوبة أثبتت جدارتها رغم قسوة الظروف، والأمل بالشباب الذي استطاع الوصول إلى أرقى الجامعات العالمية واحتل الدرجات المتقدمة.
نشرت اليونيسف(3) بيانا في ذكرى مرور عقد على الثورة السورية جاء فيه: (يواصل الأطفال في سوريا دفع ثمن الأزمة التي ستترك علامة قاتمة في ذكرى مرور عشر سنوات على بدئها، والذي يحل في آذار/مارس من هذا العام. يعاني نظام التعليم في سوريا من الإجهاد الكبير، ونقص التمويل، والتفكك وعدم القدرة على تقديم خدمات آمنة وعادلة ومستدامة لملايين الأطفال.”يوجد في سوريا أكثر من 2.4 مليون طفل غير الملتحقين بالمدرسة، منهم 40 في المائة تقريبًا من الفتيات. ومن المرجح أن يكون العدد قد ارتفع خلال عام 2020 نتيجة تأثير جائحة “كوفيد-19” التي أدت إلى تفاقم تعطّل التعليم في سوريا. لم تعُد واحدة من كل ثلاث مدارس داخل سوريا صالحة للاستخدام لأنها تعرضت للدمار أو للضرر أو لأنها تُستخدم لأغراض عسكرية. أما الأطفال القادرون على الالتحاق بالمدارس، فإنهم يتعلمون في الغالب في صفوف دراسية مكتظة، وفي مبانٍ لا تحتوي على ما يكفي من المياه ومرافق الصرف الصحي والكهرباء والتدفئة أو التهوية.)
كما تذكر منظمة حماية الطفل (4) في تقريرها الأخير في ذكرى العقد العاشر للثورة السورية: (أصبح أكثر من 2 مليون طفل، أي أكثر من ثلث الأطفال السوريين، خارج المدرسة، كما ويواجه 1.3 مليون طفل خطر التسرب.)
عملت المعارضة السورية على اعتماد نسخة منقحة من المناهج الدراسية التي أصدرتها وزارة التربية للنظام السوري عام 2011، وقد حصلت مؤسسات المعارضة على دعم متقطع لطباعة ملايين من هذه النسخة وتوزيعها على طلاب الداخل السوري. واعتماد المعارضة على نسخة مناهج مؤلفة في الحكومة السورية مع إجراء بعض التصحيحات التي لا تتعلق بالجوهر العلمي، يعطي رسالة واضحة بأنّ المعارضة السورية لا يوجد لها أجندات إيديولوجية تعمل عليها.
يمكن القول أنّ التطوع هو العصب الرئيسي لاستمرار العملية التعليمية في الداخل السوري المحرر، فعلى الرغم من وجود مئات المنظمات الداعمة إلاّ أنها لم تستطع حل مشكلة تمويل العملية التعليمية من رواتب للمعلمين ومن تجهيزات قرطاسية ومن وقود للتدفئة ومواد تنظيفية. فمازال التمويل جزئيا لبعض المدارس ومازالت رواتب المعلمين دون الحد الأدنى من المعيشة، الأمر الذي يؤثر على جودة العملية التعليمية، لأن غالب المعلمين أصحاب الخبرة والكفاءة يتجهون للأعمال الحرة ولا يعملون في مهنة التعليم.
لقد حققت المعارضة السورية إنجازا يحسب لها على صعيد الاعتراف بالوثائق الدراسية الصادرة عنها، فقد أنجزت الهيئة الوطنية للتربية والتعليم التابعة للائتلاف الوطني السوري عام 2013 امتحانات الشهادات العامة، والتي حصلت مباشرة على اعتراف من الحكومة التركية والفرنسية وقبل الطلاب في جامعات البلدين، وتبع ذلك في السنوات الدراسية عام 2014-2020 أن استطاع طلاب الشهادات الثانوية الحاصلين عليها من وزارة التربية والتعليم في الحكومة السورية المؤقتة من معادلة شهاداتهم في معظم الجامعات العالمية في بريطانيا وكندا وأمريكا ومعظم الدول الأوربية، هذا الإنجاز الذي دفع الآلاف من السوريين للاتجاه لمناطق المعارضة السورية وعدم تحمل حالة الخوف والاضطهاد في مناطق النظام لأجل حصول أبنائهم على شهادات دراسية.
بعد نجاح المعارضة السورية في تنظيم التعليم دون الجامعي بين عامي 2012-2015 ، توجهت المعارضة لتأسيس جامعة حلب في المناطق المحررة بهدف استيعاب الطلاب الحاصلين على الثانويات العامة من وزارة التعليم في الحكومة السورية المؤقتة، وكذلك إيجاد حل للطلاب الجامعيين المنقطعين عن تعليمهم مع بداية الثورة السورية، فانطلقت الجامعة بعملها ومازالت إلى تاريخه، تستوعب حوالي 7 آلاف طالب وطالبة، وتضم 13 كلية والعديد من المعاهد، حيث استطاعت الجامعة أن تحافظ على الهيئات الأكاديمية والطاقات الشبابية للبقاء في المحرر وعدم الهجرة إلى خارج سوريا، كما تساهم الجامعة في تأمين احتياجات المجتمع السوري من المؤهلين في قطاع التعليم والصحة والخدمات وغيرها.
ونقصد بها المناخ النفسي والتعليمي الذي تعيشه الأجيال السورية في ظل التعليم الثوري، الذي يتمثل في القدرة على التعبير عن الرأي والتفكير النقدي وممارسة النشاطات بدون تعنيف وتقييد وخوف، والوصول إلى المعلومات الصحيحة غير المزورة، بلا شك أن الإمكانات المادية للبيئة التعليمية في مناطق المعارضة السورية فقيرة من حيث التجهيزات والأدوات، ولاشك أن الطلاب السوريين يعانون من ظروف معاشية صعبة، إلاّ أنهم تحرروا من الآثار المدمرة للتعليم في ظل النظام الأسدي التي وصفها ماهر مسعود(5) في مقال له حول التعليم في سوريا (ففي الوقت الذي كان فيه التعليم، بمراحله كافة، من آخر أولويات الدولة من حيث الميزانية والإنفاق الحكومي، أو من باب الاهتمام بتحديث المناهج وخلق المناخ المناسب للبحث العلمي ، ركزت السلطة قبل كل شيء على مراقبة المؤسسات التعليمية و”رعايتها” أمنياً، وزرع ثقافة الخضوع والخوف وعبادة (القائد الرمز)، وخنق المبادرات الفردية وحرية التعبير، ونشر الأيديولوجيا العقائدية لحزب البعث، وإرفاق الحس الأمني للطالب بنمط حياته ونمائه الفيزيائي والعقلي والنفسي.)
لاشك أن الدمار الذي لحق بالبنيان والعمران في سوريا يحتاج للمليارات لإعادة بنائه كما يقدر الاقتصاديون ومنظمات عالمية مختصة، ولكن الأهم من ذلك والأسبق لذلك هو بناء الإنسان السوري المسلح بالعلم والمعرفة والأخلاق والقادر على تكوين مؤسسات تدير مرحلة مابعد رحيل المجرمين والمحتلين عن سوريا.
إنّ التعليم الثوري مع صعوباته وتحدياته المختلفة إلاّ أنه استطاع إنقاذ مئات الآلاف من الأطفال السوريين ، يتابعون تعليمهم في ظروف صعبة، ضمن وعي مجتمعي للأسرة السورية أنه لابديل عن العلم وأنه السبيل لبناء سوريا المستقبل، إنّ عقارب الساعة لن تعود إلى الوراء والأجيال السورية الآن التي تربت في مهد الثورة السورية سيكون لها بصمتها في قادم الأيام.
1- تقرير لليونسيف 2019: www.unicef.org/mena/ar/الأزمة-السورية-حقائق-سريعة/تقارير
2- تقرير للأوتشا 2013: اعتداءات على المدارس تعرض الطلبة للخطر: https://www.hrw.org/ar/news/2013/06/06/249952
3- بيان اليونسيف : بيان مشترك بمناسبة اليوم الدولي للتعليم 2021: www.unicef.org/mena/ar/عشر-سنوات-من-الحرب-في-سوريا،-وأكثر-من-نصف-الأطفال-لا-يزالون-محرومين-من-التعليم/البيانات-الصحفية
4- تقرير منظمة حماية الطفل 2021: https://www.savethechildren.net/blog/decade-war-timeline-syria-conflict
5- ماهر مسعود (2013)، التعليم في سوريا ، من البعث إلى الثورة: https://lb.boell.org/ar/2013/04/26/ltlym-fy-swry-mn-lbth-l-lthwr