الأستاذ الجامعي بين المعرفة والالتزام الأخلاقي

مقدمة:

في كل أمة تسعى إلى النهضة، وتطمح إلى تجاوز أزماتها الحضارية، يقف الأستاذ الجامعي على خط المواجهة الأول، لا باعتباره موظفًا يؤدي عمله في ساعات محددة، بل كحامل لرسالة معرفية وأخلاقية لا تنتهي بانتهاء المحاضرات، ولا تنحصر في جدران القاعات الدراسية، وإنما هو بوصلة فكر، وضمير أمة، وعقل نقدي مبدع، ومهندس لوعي الأجيال، وقد قيل: “الأستاذ الناجح لا يُخلق في المختبر، بل يُبنى في ساحات الحياة، ويُصقل في ميادين التجربة”.

لكنه مع رفعة المقام، يعيش هذا الأستاذ وسط شبكة معقدة من التحديات التي تمتد من قاعات المحاضرات إلى دهاليز وحيثيات البحث العلمي، ومن آمال الأمة إلى قيود البيروقراطية والروتين القاتل أحياناً.

فماذا يعني أن تكون أستاذاً جامعياً؟ وما طبيعة هذه الرسالة التي يتطلبها منه ضميره العلمي وطلبته ومجتمعه وأمته؟

هوية الأستاذ الجامعي ورساليته:

الأستاذ الجامعي هو عضو هيئة التدريس في مؤسسة أكاديمية للتعليم العالي، يتمتع بمؤهلات علمية عالية، ويدرّس الطلبة، ويجري البحوث العلمية، ويشارك في الأنشطة الأكاديمية والإدارية داخل الجامعة وخارجها، وهو ليس مجرد ناقل للمعلومات أو ملقٍ للمحاضرات، بل هو قلب نابض للجامعة، وعين بصيرة على تحولات المجتمع الذي يعيش فيه.

ووفقاً لتعريف اليونسكو، فإن الأستاذ الجامعي هو ركيزة أساسية في بناء مجتمع المعرفة من خلال التعليم العالي والبحث العلمي، ولكن هذه الركيزة لا تُبنى بالشهادات وحدها، بل بالممارسة اليومية التي تنبع من إدراك عميق لجوهر المهنة.

الأستاذ الجامعي في هذا السياق لا يقدم “مقررات”، بل يقدم لبنات في بناء الإنسان، وغرس لبذور الوعي والمعرفة، وتشكيل للعقول الراقية، وتهيئة الطلبة للمستقبل، لذا فإن ما يميز هذه المهنة ليس فقط ما فيها من علم، بل ما تحمله من قدسية، إذ تتجاوز المعلومة إلى الطلبة، وتتعدى القاعة الدراسية إلى الفضاء المجتمعي والأخلاقي.

العلم في جوهره لا يكتسب قيمته من تراكم المعلومات، بل من طريقة توظيفها في بناء الحياة، والأستاذ الجامعي الذي ينغلق في دائرة تخصصه دون أن يرى الأثر المجتمعي والمعرفي لأعماله، سرعان ما يصبح جزءاً من منظومة جامدة، تُخرّج طلاباً يحفظون ولا يبدعون، وينقلون ولا ينتجون.

الرسالة التي يحملها الأستاذ الجامعي تتطلب منه أن يرى في كل طالب مشروعاً قائماً بذاته، إنساناً ينبغي أن يُفجّر طاقاته، لا أن يُقيدها، لذا فإن أعظم ما يمكن أن يقدمه الأستاذ لطلبته ليس الإجابة، بل السؤال، وأن يعلّمهم كيف يفكرون، لا كيف يرددون، وأن يضعهم في قلب التجربة، لا على هامشها، وأن يزرع فيهم العطش للمعرفة، لا وهم الاكتفاء بها، وهذا لا يتحقق إلا حين يرى الأستاذ نفسه قدوة، لا فقط أكاديمياً بارعاً، بل إنساناً يحمل قيم النزاهة، والصدق، والانضباط، والعدل، والتواضع، فإن أخلاقيات مهنة الأستاذ الجامعي جزء لا يتجزأ من علمه، بل هي مناط فاعليته، وشرعية وجوده داخل الجامعة وخارجها.

وفي السياق السوري، تتضاعف مسؤولية الأستاذ الجامعي، فهو يعيش في مجتمع يمر بتحولات عميقة، ومآزق فكرية، وتحديات علمية وحضارية كبيرة، عليه ألا يكون منعزلاً في برجه الأكاديمي، بل يجب أن ينخرط في قضايا مجتمعه، وأن يساهم في تشخيص أمراضه المعرفية والاقتصادية والاجتماعية، وفي تقديم الحلول الممكنة والمستندة إلى علم وتحليل دقيق.

وهذا الانخراط لا يعني أن يتحول الأستاذ إلى خطيب أو ناشط اجتماعي، بل أن يُلبس تخصصه لبوس الواقع، ويُسقط نظرياته على الوقائع، ويكون صوتاً علمياً يعبّر عن تطلعات الناس، ويُثري النقاشات العامة، ويُسهم في صناعة القرار، وتوجيه الرأي العام.

وكم من أستاذٍ غيّر مسار أمته، ليس لأنه أكثر من غيره حفظاً أو نشراً، بل لأنه حمل همّها في قلبه، ووهب علمه لنهضتها، فصار اسمه يُذكر في كل محفل علمي، وتجربته تُستعاد في كل أزمة.

التزامات ومسؤوليات تتجاوز التوقعات:

أن تكون أستاذاً جامعياً، يعني أنك مطالبٌ بالوفاء بسلسلة طويلة من الالتزامات، أولها تجاه طلبتك، الذين ينتظرون منك أن تفتح لهم نوافذ العالم، وأن تكون مرشدهم في رحلتهم الأكاديمية والإنسانية. وثانيها تجاه مؤسستك الجامعية، التي يجب أن ترى فيك عضواً فاعلاً في تطويرها، حارساً لقيمها، وناقداً لبيروقراطيتها المعيقة. وثالثها تجاه تخصصك، الذي يجب أن تُسهم في تقدمه من خلال البحث والإنتاج العلمي.

غير أن أعظم هذه الالتزامات تظل تجاه الأمة، فهو مُطالب بأن بسهم في تشكيل وعيها، وبوجه بوصلتها، ويبني رأس مالها البشري.

هذه الأمة التي ظلت تعاني من الظلم والفقر والاستبداد، تنتظر من جامعاتها، ومن أساتذتها تحديداً، أن يكونوا طليعتها الفكرية، ومصابيح نهضتها.

ومع ذلك فهناك الكثير من المسؤوليات والأعباء التي تقع على عاتق هذا الأستاذ، وتهد كاهله كل يوم، فحين تبدأ السنة الدراسية، لا يبدأ فقط عمله، بل يتجدد كم كبير ومستمر من مهام لا حصر لها، من إعداد الخطط التدريسية وربطها بالمخرجات التعليمية، وتصميم العروض البصرية، وتحضير محاضرات تتماشى مع أحدث ما توصل إليه العلم؛ كل هذا ليس عملاً آليًا، بل جهد ذهني وإبداعي.

وفي القاعة الدراسية، يواجه الأستاذ تحديات حقيقية مثل: طلاب متفاوتو الخلفيات الثقافية والاجتماعية، وتساؤلات نقدية تتطلب عمقاً معرفياً، وحالات إنسانية تحتاج احتواءً ودعماً، وفي الوقت ذاته، العديد منهم ناقدون، يسجلون كل تصرف أو كلمة أو تعبير، ويشاركون تقييماتهم علناً عبر المنصات الجامعية أو وسائل التواصل، ومهما حاول الأستاذ الالتزام بالعدالة والشفافية، فإنه عرضة للشكوى، والاتهام، والتشكيك.

وبعد انتهاء المحاضرة لا تنتهي المهام، بل يبدأ تصحيح الواجبات، والرد على الاستفسارات، وتحديث المواد، في بعض الليالي، يتحول هاتفه النقال ومنصاته الرقمية أو بريده الإلكتروني إلى صف دراسي آخر.

وتُضاف إلى تلك المهام الإدارية والعلمية غير المنظورة، مهام كثيرة أخرى مثل عضوية لجان، وتطوير مناهج، والإشراف على مشاريع، ومتابعة دقيقة لطلبة الدراسات العليا، ومع المختصين أحياناً، يتحول الأستاذ إلى مدرس ومساعد إداري، وموجه نفسي، ومبرمج تقني، في آن معاً.

بين البحث والتدريس وخدمة المجتمع… معركة الأولويات:

الاحتراق المهني ليس ظاهرة نادرة بين أساتذة الجامعات، خاصة حين يُطلب منه أن يتفوّق في التدريس، ويبدع في البحث، ويخدم المجتمع، وكل ذلك في وقت محدود، ووسط ضغوط متواصلة، فغالباً ما يجد الأستاذ نفسه مشتتاً بين التحضير لتدريس العديد من المواد الدراسية، وبين الموعد النهائي لتسليم دراسة بحثية، وبين متطلبات إشرافه على طلاب الماجستير أو الدكتوراه وما يحتاجونه بشكل يومي تقريباً.

كما أن البحوث العلمية الرصينة تتطلب ساعات طويلة من القراءة والتأمل، وتستنزف طاقة ذهنية لا توفرها بيئات جامعية ممتلئة بالأعباء الإدارية، وكذلك النشر في مجلات عالمية بمعامل تأثير عالٍ، أصبح معياراً شبه أوحد للترقي والتقييم، مما يخلق صراعاً داخلياً بين رغبة الأستاذ في إنتاج علم هادف، وضغوط المؤسسات في كمّ النشر لا كيفه.

وفي الوقت ذاته، المؤتمرات لم تعد ترفاً أكاديمياً، بل ضرورة للتفاعل العلمي، رغم تكاليفها وجهودها، فهي تتطلب التحضير، والسفر، والعرض، ومصاريف قد لا تُعوض دائماً.

ولا ننسى أنه في منطقتنا تتعاظم مسؤولية الأستاذ الجامعي، فلا يكفي أن يبقى في برجه الأكاديمي العاجي، بل عليه أن ينخرط في قضايا مجتمعه، كأن يُشخّص أزماته، ويحلّل تحوّلاته، ويسهم في نهضته، ويشارك في ثوراته واصلاحاته، وهو لا يفعل ذلك بصفة الخطيب أو الناشط، بل من داخل تخصصه وبأدواته المعرفية الرصينة، فهو عقل الأمة المفكر، وصوتها العلمي، وضميرها الذي يُقاوم التبعية والجمود، فكل فكرة يُنتجها، وكل مقالة يكتبها، وكل رأي يقدمه في ندوة أو وسيلة إعلامية، هي مشاركة في توجيه البوصلة، وليس شرطاً أن يكون مشهوراً، بل يكفيه أن يكون مخلصاً، وموضوعياً، وواعياً لدوره.

وهنا مع كل هذه المسؤوليات وهذا الصراع اليومي يجعل الأستاذ في حالة ضغط مستمرة، ويعيش حالة من القلق والتوتر الدائم من تراجع إنتاجه البحثي، أو من نقد طلابه، أو من تقييمات الإدارة، وقد ينشأ لديه شعور بالذنب في حال قصّر في أحد جوانب مهامه الثلاثية: التدريس، البحث، وخدمة المجتمع، ويقف عند ذلك أمام معادلة صعبة فحواها، كيف يحقق توازناً بين هذه المهام دون أن يظلم إحداها، وفي النهاية قد يُنظر إليه على أنه يعمل لساعات قليلة ويتمتع بإجازات طويلة، لكن الحقيقة مختلفة تماماً، فالإجازات تُستثمر للبحث والكتابة، والساعات الطويلة خارج الصف تُقضى في إعداد المحتوى، وتصحيح الواجبات، وتطوير الذات، الذي لا بد منه.

العلاقة مع الطلاب… مسؤولية وعبء وتكليف:

العلاقة مع الطلاب لم تعد علاقة رأسية بين معلّم ومتعلم، بل تمثل تحدياً حقيقياً ومستمراً، وأصبحت ساحة مفتوحة للتقييم والتفاعل والنقد، فالطلاب يريدون أستاذاً يُنصت لهم، ويفهمهم، ويحفزهم، ويساندهم، ويستوعب ظروفهم، ويمنحهم مساحة آمنة للتعلّم، دون أن يشعروا بالضغط أو التسلّط، وفي الوقت ذاته، هم ناقدون، يسجلون كل تصرف أو كلمة أو تعبير، ويشاركون تقييماتهم علناً عبر المنصات الجامعية أو وسائل التواصل الخاصة بهم.

لكن بعضهم أيضاً يتعامل مع الجامعة بمنطق “الاستهلاك الأكاديمي”، فلا التزام بالحضور، ولا حرص على الجهد، مع توقع دائم لأعلى الدرجات أو للنجاح التلقائي، وكأنه “يرى الجامعة دار أبي سفيان رضي الله عنه، كل من دخله فهو ناجح”، وفي هذه البيئة، ومهما حاول الأستاذ الالتزام بالعدالة والشفافية، ربما يصبح عرضة للاتهام والتشكيك عند أول قرار تربوي حازم، وتتحول الشكاوى إلى سلاح بيد من يرفض الانضباط.

ومع تراجع “السلطة الرمزية” للأستاذ الجامعي في مجتمعاتنا، بات من الضروري أن يُجيد الأستاذ مهارات التواصل والإقناع، ويوازن بين الحزم والتفهّم، ويعيد بناء جسور الثقة.

مهارات الأستاذ الجامعي في عصر التحوّلات:

التميز الأكاديمي لم يعد كافيًا، فالأستاذ اليوم بحاجة إلى طيف واسع من المهارات التي تُكسبه قدرة أكبر على التأثير والتواصل والقيادة.

ففي جانب المهارات الناعمة (Soft Skills)، يحتاج الأستاذ إلى مهارات الاتصال الفعال، والتفكير النقدي، وحسن إدارة الوقت، والقيادة التحفيزية، والعمل الجماعي، وحل المشكلات، وهذه المهارات ليست كمالية، بل شرط للنجاح في بيئة طلابية ديناميكية ومرنة، فالأستاذ الذي يعرف كيف يُدير حواره مع طلابه، ويوجههم بلطف، ويُلهمهم بصدق، سيكون أكثر قدرة على الوصول إلى عقولهم وقلوبهم.

أما في جانب المهارات التقنية الصلبة (Hard Skills)، فتتمثل في الإلمام بأحدث ما توصل إليه تخصصه، وإتقان أدوات البحث والتحليل، وتوظيف التكنولوجيا التعليمية، وإنتاج المحتوى الرقمي، والتعامل مع قواعد البيانات العلمية، وتصميم المحاضرات التفاعلية، ومعرفة استخدام أهم أدوات الذكاء الاصطناعي، فالعصر لا يرحم من يكرّر محاضراته ولا يُحدّث أدواته، فالأستاذ الذي يُجيد مخاطبة طلابه بلغتهم، ويُلهِمهم برؤيته، ويُحفّزهم لتجاوز أنفسهم، هو القادر على إحداث الأثر.

خاتمة:

أن تكون أستاذاً جامعياً هو أن تقف يومياً على حافة التوازن بين المعرفة والمسؤولية، وبين العمل الشاق والالتزام الأخلاقي، وبين طموح التغيير وواقع المؤسسة، وأن تعرف أنها مهنة تتطلب عقلاً متوقداً، وقلباً واسعاً، وصبراً لا ينضب.

أن تكون أستاذًا جامعياً هو أن تقف يومياً في وجه تحديات جسام كالنظم التعليمية المتخلفة، والضغوط الإدارية المتزايدة، ومعايير التقييم القاسية، والسرعة المعرفية المذهلة.

ولكن، ورغم كل ذلك، أن تبقى واقفاً، مؤمناً أن ما تفعله ليس وظيفة، بل رسالة، وأن تدرك أن كل فكرة تغرسها في عقل طالب هي بذرة تغيير، وكل موقف أخلاقي تتمسك به هو دفاع عن كرامة المهنة، وكل بحث جاد تُنجزه هو لبنة في صرح النهضة، فطوبى لكل أستاذ يعي أن بين يديه أمانة، وفي قلبه شعلة، وعلى عاتقه رسالة، وعلى كتفيه أمة تنتظر أن يضيء لها الطريق.

وأخيراً، إن أردنا نهضة حقيقية، فعلينا أن نُعيد الاعتبار للأستاذ الجامعي، بإعادة رمزيته، وتوفير بيئة إبداعية له، مادية ومعنوية، ومحاسبته على التقصير، وتكريمه على العطاء.

وسوم

عن الكاتب

د عبد المهيمن ديرشوي

دكتوراه في المناهج وطرائق التدريس

اقرأ لـ د عبد المهيمن ديرشوي