الأكاديميون والنزاعات الشخصية
د عبد المهيمن ديرشوي
مايو 26, 2025
8 دقائق
د عبد المهيمن ديرشوي
مايو 26, 2025
8 دقائق
مقدمة:
تُعدّ الجامعات أعلى مراتب المؤسسات التعليمية، ويُفترض بها أن تكون مثالاً يحتذى في النزاهة الأكاديمية والعدالة المهنية، غير أن الواقع في كثير من الأحيان يكشف عن وجه آخر مظلم، يتمثل في انتشار الحسد والتنافس غير النزيه بين الزملاء، وكذلك التحزبات، وتصفية الحسابات الشخصية، مما يُفسد بيئة العمل، ويؤثر سلبًا على مخرجات التعليم العالي.
ويرى بيار بورديو (Pierre Bourdieu) أن الحقل الأكاديمي ليس مجرد فضاء للعلم فقط، بل هو أيضاً ساحة صراع على رأس المال الرمزي (الشهادات، الاعتراف، الشهرة)، هذا الصراع يولّد مشاعر الكراهية والحسد تجاه من يحققون صعوداً أسرع أو اعترافاً أوسع، والحسد هنا ليس مجرد انفعال شخصي، بل هو نتيجة منطق الحقل نفسه الذي يُؤطر علاقات القوة داخله، ويذكر في هذا السياق أن الفلاسفة الكبار مثل هيغل ونيتشه خاضوا معارك فكرية عنيفة مع معاصريهم، حيث كان التنافس على “امتلاك الحقيقة” يغذي نزاعات قاسية.
ونتيجة لذلك يعالج علم النفس، الحسد الأكاديمي، باعتباره انعكاسًا لنزعة نرجسية لدى الفرد في الوسط الأكاديمي؛ إذ أن الباحثين الذين يستمدون هويتهم من منجزاتهم الفكرية قد يشعرون بتهديد عميق أمام نجاحات زملائهم، ووفقًا لنظرية “تهديد الأنا” (ego threat)، فإن تضخم تقدير الذات الأكاديمية يدفع الفرد إلى استقبال تفوق الآخرين بمشاعر عدائية ذات طابع دفاعي.
ومن هذا المنطلق وفي السياق الأكاديمي، يمكن أن يظهر ذلك في صور متعددة كتشويه السمعة، أو التحقير من منجزات الآخرين، أو حتى السعي إلى إقصائهم، قال ابن المقفع: “عقل الرجل يُعرف بثلاث: بأفعاله، وأقواله، ومدى تحمله لتفوّق غيره”.
وكذلك في السياق الأكاديمي الإسلامي، يُعدّ الحسد نوعًا من التجاوز الأخلاقي، فالحسد مذكور صراحة في القرآن، واعتُبر من الأمراض القلبية الخطيرة التي تستوجب الاستعاذة بالله، كما في قوله تعالى: ﴿وَمِن شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ﴾، فهذا التحذير القرآني يُبرز أثر الحسد كقوة سلبية قد تدفع صاحبها إلى الإضرار بالآخر، لا سيما إن تحوّل الحسد إلى سلوك فعلي أو مشاعر كراهية مضمرة.
مظاهر الحسد والتنافس غير النزيه بين أعضاء الهيئة التدريسية:
رغم أن التنافس الأكاديمي قد يكون دافعاً للإبداع والتطوير، إلا أنه في بعض الأحيان يتخذ مسارات سلبية، تؤدي إلى التنافر والتناحر بين أعضاء الهيئة التدريسية، فعندما تغيب الضوابط الأخلاقية في هذا الوسط، يتحول الحافز العلمي إلى منبع للحسد والنزاع والتنافس غير النزيه بينهم.
وفيما يأتي توضيح لأبرز مظاهر هذا السلوك الذي يُضعف روح التعاون، ويقوّض بيئة العمل الأكاديمي:
في العديد من الجامعات ومراكز البحث العلمي، تُطرح علامات استفهام متزايدة حول نزاهة بعض لجان التحكيم العلمية، حيث لا يُبنى تقييم الأبحاث دائماً على أساس القيمة العلمية أو الإضافة المعرفية التي يقدمها الباحث، بل كثيرًا ما تخضع هذه العملية لمعايير غير موضوعية تتعلق بالاعتبارات الشخصية أو العلاقات الاجتماعية داخل الوسط الأكاديمي، فتجد أبحاثًا ذات جودة عالية تُرفض دون مبررات منهجية واضحة، فقط لأن صاحبها لا ينتمي إلى دائرة النفوذ العلمي أو لأنه لم يُحسن نسج العلاقات مع بعض أعضاء اللجنة.
وتتجلى هذه الظاهرة بوضوح عندما يتم التعامل مع الباحثين على أساس أسمائهم أو خلفياتهم الأكاديمية أو حتى انتماءاتهم المؤسسية، لا على أساس جهدهم البحثي.
كما وقد يُحظى بحث ضعيف بقبول سريع، فقط لأن كاتبه شخصية معروفة، أو لأنه يحظى بدعم ضمني من داخل اللجنة المحكِّمة، ومع مرور الوقت، تصبح هذه السلوكيات جزءًا من ثقافة المؤسسة، فيتسلل الإحباط إلى نفوس الباحثين الشباب، وتتآكل ثقتهم في عدالة النظام الأكاديمي، وتُهدر بذلك طاقات علمية كان يمكن أن تسهم في إثراء المعرفة وخدمة المجتمع.
وبناء على ذلك فأن هذه النزعة إلى تسييس العلم أو تحويله إلى أداة لتصفية الحسابات الشخصية لا تُلحق الضرر بالباحثين فحسب، بل تضعف البيئة البحثية برمتها، وتشجع على الشللية والانغلاق، وتعيق حركة التطوير والابتكار التي لا تنمو إلا في مناخ من الحرية والعدالة والتقدير الحقيقي للجهد العلمي.
تُعدّ مجالس الأقسام الأكاديمية واللجان المنبثقة عنها من أبرز أدوات الحوكمة واتخاذ القرار في المؤسسات الجامعية، غير أن هذه المساحات التي يفترض أن تُدار بروح التعاون والتجرد المهني، تتحول أحيانًا إلى ساحة نزاع بين أعضاء الهيئة التدريسية، ويظهر هذا النزاع على شكل خلافات حادة حول التعيينات، وتوزيع العبء التدريسي، وتقييم الأداء، والمصادقة على البرامج والخطط.
وفي هذا الإطار، كثير من الحالات، لا تُتخذ القرارات بناءً على معايير علمية أو مصلحة الطالب والمؤسسة، بل على أساس التحالفات الشخصية، أو الانتماءات الفكرية، أو تصفية الحسابات القديمة.
وعلاوة على ذلك فإنه تزداد حدة النزاع في غياب ضوابط الحوكمة الرشيدة، أو عند وجود قيادة أكاديمية ضعيفة أو متحيزة، ما يجعل القرارات عرضة للتسييس الأكاديمي، كما قد يُستخدم “التصويت” أداة للإقصاء أو فرض الإرادة، بدلًا من كونه وسيلة للتعبير عن رأي علمي مستقل.
في السياق الأكاديمي، قد يستخدم بعض الباحثين آلية الإسقاط (projection)، حيث ينسبون مشاعرهم السلبية إلى الآخرين، فيقولون مثلاً: “هو مغرور”، عوضاً عن الاعتراف الداخلي بمشاعر الحسد، كأن يقول المرء: “أنا أحسده”. وتُبرَّر مشاعر الكراهية الناتجة عن هذا الإسقاط من خلال الانتقاص من الآخر، والادعاء بتفوق أخلاقي أو معرفي زائف.
ومن هذا المنطلق، تعد مسألة التضخيم والتحجيم واضحة في الصراع الأكاديمي في الكثير من المؤسسات الجامعية، وذلك من خلال تقليل قيمة إنجازات بعض الأكاديميين، عبر تجاهل أبحاثهم، أو استبعادهم من اللجان والمشاريع، أو التشكيك في كفاءتهم، وغالبًا ما يكون بدافع الغيرة أو الخوف من التنافس، وليس بناءً على معايير موضوعية، أو من خلال إبراز مفرط لأداء بعض الأكاديميين، ومنحهم مكانة لا تتناسب دائماً مع إنجازاتهم الفعلية، فقد يكون ناتجاً عن العلاقات الشخصية، أو التحيّزات الإيديولوجية، أو تحالفات داخل المؤسسة.
بناءً على الطروحات السوسيولوجية الحديثة، يتمثل الحسد الأكاديمي أيضاً في محاولات تهميش الباحثين الجدد أو المختلفين، عبر تحالفات ضمنية، وشبكات تكرس التراتبية، ويتحول الحسد إلى كراهية حين يُستخدم كسلاح اجتماعي لإقصاء المنافسين، وخاصة الجدد، سواء عبر لجان التحكيم، أو الترقيات، أو التعيينات الأكاديمية.
أسباب النزاعات في الوسط الأكاديمي:
تتعدد أسباب النزاعات والخلافات داخل المؤسسات الأكاديمية، وتتفاوت بين عوامل تتعلق بالموارد، والفكر، والشخصية، والإدارة، إضافة إلى التوترات بين التخصصات المختلفة.
وبادئ ذي بدء، يعد التنافس على الموارد من أبرز الأسباب التي تؤدي إلى الاحتكاك بين أعضاء الهيئة التدريسية، فالحصول على التمويل سواء من خلال المنح، أو المختبرات، أو الساعات الإضافية، أو دعم المساعدين البحثيين، يشكل نقطة خلاف أساسية، خاصة في ظل محدودية هذه الموارد كما في منطقتنا، ويضاف إلى ذلك عبء التدريس، وتوزيع المقررات بشكل غير متوازن، مما يثير شعوراً بعدم العدالة بين أعضاء الفريق، ولا يخفى أن فرص الترقية والاعتراف الأكاديمي تمثل أيضاً مجالاً للتنافس الحاد، إذ يسعى كل فرد لتحقيق مكانة علمية مرموقة.
ويلاحظ أيضاً أن الخلافات الفكرية أو الأيديولوجية، تنشأ من اختلاف الأطر النظرية أو المنهجية البحثية بين الأكاديميين، مما يؤدي إلى تضارب في تفسير النتائج العلمية، ويتفاقم الوضع حين تتداخل الصراعات السياسية أو الأخلاقية، خصوصاً في العلوم الإنسانية والاجتماعية، حيث تتشابك الأفكار والقيم بشكل مباشر مع المحتوى البحثي.
وتجدر الإشارة هنا إلى أنه لا تخلو العلاقات بين الزملاء من مشكلات شخصية تتعلق بالغرور والغيرة المهنية، والتي قد تؤدي إلى تصاعد النزاعات، ويرافق ذلك أحياناً سوء فهم أو ضعف في مهارات التواصل، مما يفاقم الأوضاع ويحول الخلافات الفكرية أو المهنية إلى صراعات شخصية، كما قد يظهر انعدام الاحترام أو قلة الأدب في التعامل، وهو ما يؤثر سلباً على بيئة العمل.
وكذلك تبرز عوامل إدارية وبنيوية تلعب دوراً محورياً في إثارة النزاعات، مثل غياب السياسات الواضحة أو العادلة داخل الجامعات، وضعف آليات حل النزاعات التي تجعل من الصعب معالجة الخلافات بفعالية، كما يساهم غموض الأدوار والمسؤوليات في زيادة الالتباس، ما يولد توترات إضافية.
المحسوبيات في توزيع الأعباء الأكاديمية:
تُعدّ العدالة في توزيع الأعباء الأكاديمية من ركائز البيئة الجامعية السليمة، حيث تضمن الإنصاف بين أعضاء الهيئة التدريسية وتحفّز الكفاءة، إلا أن الواقع في بعض المؤسسات الجامعية يكشف عن اختلالات ناتجة عن المحسوبيات والعلاقات الشخصية، وتظهر هذه المحسوبيات في صور متعددة تؤثر سلبًا على الأداء المهني والتوازن الوظيفي داخل القسم الأكاديمي، ومن أكثر صور المحسوبيات شيوعاً في الوسط الأكاديمي، أن تُسند بعض المقررات ذات المكانة الأكاديمية العالية أو التي تحظى بإقبال طلابي كبير إلى أعضاء هيئة تدريس معيّنين بصورة دائمة، بصرف النظر عن مدى ملاءمتهم أو كفاءتهم لتدريس تلك المواد، وغالبًا ما تكون هذه المقررات فرصة لتعزيز الحضور العلمي والشخصي للأستاذ داخل المؤسسة أو لجذب الطلبة للمشاريع البحثية أو الإشراف، أما الأعضاء الجدد أو أولئك الذين لا يتمتعون بعلاقات قوية داخل القسم، فيُسند إليهم مقررات صعبة أو غير مرغوبة، أو يُثقل كاهلهم بعدد أكبر من الساعات دون مبرر واضح.
كما يظهر أثر هذه المحسوبيات في أوقات الدوام والحضور والغياب، حيث تُعدّ العدالة في الالتزام الإداري أحد ركائز الانضباط المهني داخل المؤسسة الجامعية، إلا أن بعض الأقسام تُمارس ازدواجية صارخة في تطبيق أنظمة الحضور والغياب، حيث يُغض الطرف عن تأخر أو غياب بعض الأساتذة المقربين من الإدارة أو أصحاب النفوذ داخل القسم، بينما تُطبّق القوانين بصرامة على آخرين، حتى في حالات الأعذار المشروعة، ويصل الأمر أحياناً إلى تحسين سجلات الدوام بشكل غير رسمي، أو السكوت عن عدم التزام بعض الأساتذة بالتدريس، مع تحميل عبء تغطية المحاضرات لزملائهم.
ولا ننسى في هذا السياق مسألة التفرغ العلمي والإجازات حيث يُفترض أن تُمنح الإجازات الأكاديمية والتفرغات البحثية وفق معايير واضحة تستند إلى الجدارة البحثية، والاحتياج العلمي، والخطة الاستراتيجية للمؤسسة، لكن في بعض الأقسام، تخضع هذه الامتيازات لعلاقات شخصية وولاءات إدارية، ما يؤدي إلى احتكار الفرص من قبل أسماء بعينها تتكرر بشكل شبه دائم، بينما تُقصى أسماء أخرى رغم كفاءتها، وقد تُرفض طلبات التفرغ بحجج واهية كـ “حاجة القسم”، في الوقت الذي تُمنح فيه لآخرين دون مراعاة حقيقية للحاجة.
أثر هذه البيئة على البحث العلمي والمجتمع:
تؤثر النزاعات بين الأكاديميين في الجامعات بشكل سلبي وعميق على البيئة التربوية والبحث العلمي، كما تنعكس آثارها على المجتمع بأسره، فعندما تسود الخلافات والصراعات داخل الوسط الأكاديمي، يبدأ الطالب والشاب الباحث بفقدان الثقة في المؤسسة التي يفترض أن تكون منارة للعلم والمعرفة، وهذه الثقة المتزعزعة في نزاهة التقييم والعدل الأكاديمي تدفع الكثير من الطلبة إلى الشعور بالإحباط، وربما تدفع البعض منهم إلى الابتعاد عن البحث العلمي أو اللجوء إلى وسائل غير مشروعة، مثل الغش أو الاعتماد على طرق ملتوية، تعبيرًا عن استيائهم من بيئة لا تُقدّر الجهد ولا تعترف بالكفاءة الحقيقية.
وبالتالي، تتأثر جودة مخرجات البحث العلمي بشكل مباشر بهذه النزاعات، إذ قد تُرفض أبحاث ذات قيمة وجودة عالية، ليس بسبب ضعفها، بل بسبب الخلافات الشخصية أو التحيزات التي تصاحب الصراعات الأكاديمية، وتغيب المعايير الموضوعية، ويُسحب الدعم من مشاريع بحثية قد تسهم في تطوير المعرفة والخدمات المجتمعية، مما يعيق التقدم العلمي، ويؤخر تحقيق الأهداف التنموية للمؤسسة وللمجتمع ككل.
أكثر من ذلك، فإن تصاعد هذه الخلافات وسلوكيات الاستقطاب والتناحر بين الأكاديميين ينعكس سلباً على صورة النخبة الأكاديمية في المجتمع، فالطبقة الأكاديمية التي من المفترض أن تكون نموذجاً في الأخلاق والسلوك المهني والنزاهة، تتحول أمام أنظار المجتمع إلى صورة مشوهة من التنافس غير البناء والصراعات الشخصية، وهذا يؤدي إلى نفور المجتمع من العلماء والأكاديميين، ويقلل من مكانتهم واحترامهم، مما يضعف تأثيرهم في توجيه الرأي العام، وفي المساهمة الحقيقية في بناء مجتمع متعلم وقادر على مواجهة تحديات العصر.
بذلك، فإن بيئة الصراع داخل الجامعات ليست مجرد مشكلة داخلية، بل هي عامل معوق يؤثر على مسيرة العلم والتربية، وعلى دور الجامعات كمؤسسات مسؤولة عن إعداد الأجيال القادمة وتنمية المجتمع بكفاءة وعدالة.
الطالب كضحية للنزاع الأكاديمي:
آثار الصراع الأكاديمي بين أعضاء الهيئة التدريسية على الطالب متعددة وعميقة، وتمتد لتؤثر على الجوانب التعليمية والنفسية والسلوكية للطالب، بل قد تُقوّض ثقته بالمؤسسة التعليمية ككل، فحين ينشغل أعضاء الهيئة التدريسية بصراعات شخصية أو مهنية، فإن تركيزهم على الأداء الأكاديمي يضعف، مما يؤدي إلى تراجع في جودة الشرح والتفاعل مع الطلبة، وغياب في التنسيق بين المقررات والأنشطة التعليمية، وضعف المتابعة الفردية والتوجيه الأكاديمي.
أضف إلى أن هذه الصراعات قد تعمل على إرباك الطالب فكريًا وسلوكيًا من خلال شعوره بأن أساتذته على خلاف أو في حالة صراع دائم، فإنه يُصاب بالحيرة في مواقفه، خاصة إن طُلب منه الانحياز لطرف ضد آخر بشكل غير مباشر، ويفقد الإحساس بالاستقرار والانتماء داخل البيئة التعليمية، وقد ينخرط في الصراع نفسه، فينقسم الطلبة إلى مجموعات تتبع أساتذتها المفضلين، ناهيك عن مسالة تشويه القدوة الأكاديمية، فالأساتذة يُعدّون قدوة للطلبة، لا سيما في المراحل الجامعية، وعندما يشهد الطالب سلوكيات عدوانية أو غير مهنية بين أعضاء الهيئة التدريسية، فإن صورته عن أخلاقيات البحث والتعليم تتشوّه، وتقل ثقته بالقيم التي يُفترض أن تَحكم الوسط الأكاديمي، كالتجرد، والعدالة، والتواضع، وتنخفض دافعيته للتعلم، إذ يرى البيئة الأكاديمية غير محترمة أو مشحونة بالتوتر.
ولا ننسى في هذا السياق إلى أن هذه الصراعات والنزاعات تؤثر كذلك على فرص التعلم والتطور، ففي حالات الصراع، قد تُغلق أمام الطالب فرص البحث أو التدريب أو المشاركة في الأنشطة، خاصة إذا كان مرتبطًا بأحد أطراف الصراع، وقد يُحرم من الإشراف الأكاديمي الجاد، أو فرص المشاركة في مشاريع بحثية أو مؤتمرات.
وكذلك نذكر هنا مناقشة الرسائل في بيئة مسمومة، ففي حال وجود خصومة بين المشرف وأحد أعضاء لجنة المناقشة، يدفع الطالب الثمن، حيث يتم التعامل مع أطروحته بعدم حيادية، ما يؤدي أحيانًا إلى تعطيل مناقشته أو التوصية بتعديلات قاسية لا مبرر لها.
وكذلك الإشراف المتعثر، حيث قد يُفرض على الطالب مشرف غير متعاون أو غير مختص نتيجة توزيع الإشراف وفق اعتبارات غير أكاديمية.
توصيات وخاتمة:
لمعالجة هذه الظواهر السلبية التي تنعكس على الوسط الأكاديمي والتربوي، ينبغي اتخاذ خطوات جادة لضمان بيئة أكاديمية صحية وعادلة، ومن أهم هذه الإجراءات تشكيل لجان مستقلة ومتخصصة تتولى تقييم الأبحاث العلمية، بحيث تكون مبنية على معايير موضوعية بعيدة عن التأثيرات الشخصية أو الخلافات الفردية، مما يعزز نزاهة وجودة المخرجات البحثية.
إلى جانب ذلك، من الضروري وضع آليات واضحة وعادلة للطعن والتظلم تتيح للطلبة تقديم شكاواهم، والاعتراض على نتائج التقييم أو القرارات الأكاديمية، بما يعزز من ثقة الطلبة في النظام ويمنحهم فرصاً عادلة للنجاح.
كما ينبغي أن يكون توزيع الإشراف على الأبحاث والمحاضرات بين الأكاديميين مبنيًا على أسس من العدالة والشفافية، دون محاباة أو تمييز، بحيث يشعر الجميع بالمساواة في الفرص والواجبات، ويُحفّز بذلك روح التعاون والالتزام المهني.
وكذلك يجب اعتماد تقييم الأداء الأكاديمي استنادًا إلى مؤشرات واقعية وموضوعية تعكس الجهد والإنتاج العلمي والتربوي الفعلي، لا على أساس العلاقات الشخصية أو الانتماءات، لضمان تطوير القدرات وتحفيز الأداء المتميز بما يخدم رسالتهم التعليمية والبحثية.
وأخيرًا، يمكن القول إن ما يحدث في بعض الجامعات من صراعات ونزاعات شخصية بين أعضاء هيئة التدريس هو جرحٌ في جسد التعليم العالي، ويستدعي وقفة جادة من المؤسسات الرسمية، والمجتمع العلمي، لوضع آليات رقابية واضحة وشفافة، لذا فإن إصلاح الجامعات يبدأ من إصلاح أخلاقيات القائمين عليها.
إن الصراع الأكاديمي لا يقتصر أثره على أطرافه المباشرين، بل يمتد ليصيب الجوهر التربوي للمؤسسة الجامعية، والطالب، بوصفه محور العملية التعليمية، هو الضحية الأضعف في هذه المعادلة، لذا فإن معالجة هذا النوع من الصراع لا تُعدّ شأناً داخلياً بين الأساتذة فحسب، بل هي ضرورة تربوية وأخلاقية لضمان بيئة تعليمية آمنة ومحفزة.