خطوة لإصلاح كليات الشريعة في سورية “رؤية تربوية”
د عبد المهيمن ديرشوي
يونيو 16, 2025
4 دقائق
د عبد المهيمن ديرشوي
يونيو 16, 2025
4 دقائق
كانت وما زالت كليات الشريعة تتميز، لا من جهة كونها مؤسسة أكاديمية، بل لما تحمله من فكرة عظيمة ورسالة سامية، فهي كليات مرتبطة بديننا الإسلامي الحنيف، ومرتبطة بعقيدتنا الغرّاء، وتشكّل في مضمونها منارات للعلم والنور، ومصابيح للهداية والفهم، وهي التي ترفد المجتمع بمن يذكّر بالله، ويعيد التوازن بين عالم المادة والروح، ويشيع القيم النبيلة والمبادئ الأخلاقية في زمن شحّت فيه القيم، وكثرت فيه الفتن، وتبدّلت فيه المفاهيم.
ومن هنا، فإن كليات الشريعة تحتل مكانة بالغة الأهمية في المجتمعات الإسلامية، فهي ليست مجرد مؤسسات أكاديمية، بل هي محاضن تخرج دعاة وأئمة ومعلمين ومرشدين، وهي المسؤولة عن صياغة التصورات الدينية العامة، وعن إعداد من يتصدر للخطاب الديني في المجتمع، وبالتالي فإن جودة ما تقدمه هذه الكليات تنعكس بشكل مباشر على وعي الناس وفهمهم للدين، وعلى مدى التزامهم بالقيم والأخلاق الإسلامية.
وعليه فإن العناية بكليات الشريعة ليست ترفاً فكرياً، ولا رفاهية أكاديمية، بل ضرورة وجودية تتعلق بمصير الأمة ومستقبلها.
وفي ضوء ما مرّت به سورية من تحولات جذرية، وبعد أن تخلص الشعب السوري من النظام البائد المجرم الذي كبّل المؤسسات التعليمية عامة، وكليات الشريعة خاصة، وأخضعها لرقابة أمنية صارمة، ومنع تطوير مناهجها وكوادرها بالشكل الذي يليق بها، وجعل منها أداة لخدمة أهوائه السياسية وأجنداته السلطوية، أصبح من الضروري والمُلِحّ أن نعيد النظر جذرياً في واقع هذه الكليات، وأن نباشر في إصلاحها وتطويرها بما يتلاءم مع متطلبات العصر، ويستجيب لحاجات المجتمع، ويرتقي برسالتها نحو أداء أكثر نضجاً وتأثيراً، فلم يعد مقبولاً أن تبقى كليات الشريعة في سورية تراوح مكانها، وتكرر نفسها، وتُخرج نماذج من الخريجين الذين يمتلكون خلفيات معرفية أولية ومحدودة الأثر في واقع الحياة والعمل.
إن أحد أبرز الأسباب التي تجعل من تطوير كليات الشريعة أمراً ضرورياً هو أن هذه الكليات تمنح شهادة عامة في الشريعة الإسلامية لكل من التحق بالمرحلة الأولى منها (البكالوريوس)، دون أن تكون هناك تخصصات دقيقة منذ البداية، فالطالب يدرس شيئاً قليلاً من الفقه، وشيئاً قليلاً من الحديث، ومثله من أصول الفقه، والقرآن الكريم، وأحياناً شيئاً قليلاً جداً من الفلسفة والمنطق والتاريخ الإسلامي، ولكن كل ذلك يأتي على شكل جرعات متفرقة، تفتقد للعمق والنسق المنهجي، ثم يُمنح هذا الطالب شهادة شاملة في الشريعة الإسلامية، وهذا في جوهره أمر خطير، لأنه يؤدي إلى إنتاج نمط من الخريجين الذين يظنون أنهم خبراء في كل شيء متعلق بالشريعة الإسلامية، بينما هم لم يتعمقوا في شيء، وبالتالي يخرج لنا من هذه الكليات من يظن نفسه مفسراً ومحدثاً وفقيهاً ومفتياً وعالماً وشيخاً كبيراً في آن واحد، بينما هو في الواقع لم يدرس سوى بضعة كتب مختصرة، وربما لم يحفظ من القرآن سوى جزء عمّ، فكيف يكون هذا الشخص ممثلاً للدين، وناطقاً باسمه؟ وكيف نرضى أن يتحدث باسم الإسلام من لم يتقنه علماً وفهماً متعمقاً؟
في المقابل، فإن الكليات الإنسانية الأخرى، مثل كليات التربية مثلاً، تعتمد نظام التخصص من السنة الأولى، فالطالب الذي يدخل إلى كلية التربية، فأنه يدخل إلى تخصص ما بعينه كأن يدرس تخصص رياض الأطفال، أو الإرشاد النفسي، أو التربية الخاصة، أو القياس والتقويم، …. إلخ، أي يتخصص منذ البداية، ويدرس لمدة أربع سنوات في تخصص محدد، ثم يتخرج حاملاً شهادة في ذلك التخصص فقط، ويتوظف ويعمل في مجاله، ويكتب أبحاثه في المجال نفسه، ولا يتجاوز حدوده.
وقد يُطرح اعتراض مفاده أن كليات الطب لا تعتمد التخصص منذ السنة الأولى، ويُستشهد بذلك على ضرورة الإبقاء على الدراسة العامة في كليات الشريعة في المراحل الأولى، غير أن هذا القياس غير دقيق؛ إذ أن خريج كليات الطب لا يُصرّح له بالخوض في أدق التخصصات الطبية، كجراحة القلب والأوعية الدموية، إلا بعد سنوات من الدراسة التخصصية والتدريب العملي الدقيق، بينما نجد أن خريج كلية الشريعة، بعد دراسة عامة محدودة، يُتاح له الحديث في قضايا دقيقة تمسّ العقيدة والفقه وأصول الحديث والتفسير، وهي مجالات تتطلب دقة تخصصية لا تقلّ بحال عن التخصصات الطبية. ومن هنا تظهر الحاجة الملحّة لإعادة النظر في بناء المناهج وآليات التخصص داخل كليات الشريعة بما يضمن تأهيلًا علميًا رصينًا ومسؤولًا.
لكن من المهم أن نُدرك أن هذا النظام المعمول به في الكليات الإنسانية الأخرى ربما لا يمكن نقله كما هو إلى كليات الشريعة، لأن طبيعة العلوم الشرعية تختلف جوهرياً عن غيرها من التخصصات، فالتفريع المبكر والتخصص الدقيق منذ السنة الأولى، كما هو الحال في كليات التربية أو الآداب، قد لا يكون مناسباً هنا، لأن العلوم الشرعية متداخلة ومتآزرة بطبيعتها، ولا يمكن فهم أحد فروعها بمعزل عن الآخر، فلا يمكن لطالب أن يتخصص في الفقه مثلاً من دون أن يكون له إلمام بالحديث، ولا يمكن دراسة التفسير من غير معرفة بأصول الفقه واللغة العربية، ولا يمكن الإفتاء بلا معرفة شاملة بالمقاصد والقرآن والسنة، فهذه العلوم تكوّن نسيجاً متكاملاً، يتطلب تكويناً معرفياً عاماً في المراحل الأولى، يسبق مرحلة التخصص، ويهيّئ الطالب للنضج العلمي والروحي المطلوب في هذا المجال.
ولذلك فإن كليات الشريعة بحاجة إلى نظام خاص بها، يراعي هذا التشابك والتكامل، ويستجيب لحساسية الموضوع الديني، ويُعطي المساحة الكافية لتكوين الطالب تكويناً شاملاً متزناً، قبل الخوض في التخصصات الدقيقة.
وعليه فإن النظام المقترح لإصلاح كليات الشريعة يمكن أن يقوم على أساس التدرج والتكامل، بحيث يتم التركيز في المرحلة الجامعية الأولى (البكالوريوس) على بناء الوعي الإسلامي العام، والتركيز بشكل جوهري وبالدرجة الأولى على تعزيز القيم والأخلاق الإسلامية، وتزويد الطلبة بالمعرفة الأساسية في العلوم الشرعية، وخاصة تلك التي تجمع الأمة ولا تفرقها، دون الغوص في دقائق المسائل واختلافات المذاهب في أدق التفاصيل، ويكون الهدف من هذه المرحلة هو إعداد كوادر مؤمنة وواعية ومشربة بروح الإسلام، تعمل في المجالات التربوية والاجتماعية، وتكون مرآة للقيم الإسلامية في سلوكها وأدائها.
وهؤلاء الخريجون نُطلق عليهم اسم “التربويون الإسلاميون”، وهم الفئة الأولى التي تخرجها الكلية، وهم من سيكونون مدرسين للتربية الإسلامية، ومرشدين دينيين اجتماعيين في المدارس، وخطباء للمساجد، وأئمة، ووعاظاً، ومتطوعين في الجمعيات والمراكز الإسلامية المجتمعية، وغير ذلك من الوظائف التي تتطلب خلفية دينية قوامها المعارف الأساسية، والقيم والأخلاق الإسلامية بالدرجة الأولى، دون أن تكون تخصصية في علم الفقه أو الحديث أو….الخ، ويتميز هذا التربوي الإسلامي بأنه إنسان مشبع بالقيم، ملتزم بالسلوك القويم، قادر على التأثير في الناس من خلال أخلاقه وسيرته، لا من خلال فتوى أو مسألة فقهية، بل من خلال الاقتداء العملي، والتوجيه الإنساني الرشيد.
أما الفئة الثانية فهي “المتخصصون في الشريعة الإسلامية”، وهؤلاء هم من يواصلون دراساتهم العليا في الماجستير والدكتوراه، ويتخصصون في أحد فروع الشريعة مثل الفقه، أو الحديث، أو أصول الفقه، أو التفسير، أو القرآن الكريم أو … إلخ، وهؤلاء فقط من ينبغي أن يُسمح لهم بالإفتاء، والتدريس في الجامعات، وإعداد البحوث الإسلامية الرصينة، وتأليف الكتب المتخصصة، والنظر في القضايا المعقدة، وهؤلاء هم العلماء الحقيقيون، الذين لا يُتصدّرون إلا بعد نضج علمي وروحي، وبعد سنوات طويلة من الدراسة والتكوين في الماجستير والدكتوراه.
بهذا النظام نحقق التوازن بين:
كما نؤكد أن المجتمع اليوم بأمسّ الحاجة إلى الفئة الأولى، إلى التربويين الإسلاميين، الذين يحملون شعلة القيم، وينشرون المحبة، ويُعيدون ترميم النسيج الاجتماعي المنهك، ويقدّمون أنموذجاً للإسلام الإنساني الرحب، الذي يعلّم الناس كيف يكونون رحماء، لا كيف يختلفون ويتنازعون على المسائل الفقهية.
أضف إلى أنه في ظل انحدار الأخلاق، وانتشار العنف، وتفشي الأنانية والمادية، تبرز الحاجة الماسّة إلى خطاب ديني أخلاقي يعيد للناس إنسانيتهم، ويذكّرهم بالمعاني السامية التي جاء بها الإسلام.
ومن هنا فإن مناهج كليات الشريعة المقترحة في المرحلة الجامعية الأولى يجب أن تركز على التربية القيمية والروحية، والتزكية، والتصوف، والممارسات الأخلاقية، لا أن تكون مجرد حشو نظري للمعلومات، فالعلم بلا خلق لا ينفع، والدين بلا سلوك لا يؤثر، وإذا غابت الأخلاق والقيم من الخطاب الديني، فقدنا أعظم مقاصد الشريعة، وتحوّل الدين إلى طقوس جامدة، لا تهذّب نفساً، ولا تصلح مجتمعاً.
ومع ذلك، فإن هذا التركيز على التربية القيمية لا يعني إغفال البناء العلمي المتين، بل ينبغي أن تحتوي مناهج هذه المرحلة أيضاً على جرعة معرفية مناسبة، تُقدَّم بوعي وتدرّج، بحيث تتيح للطلبة، وبخاصة أولئك الذين سينتقلون إلى الدراسات العليا، أن يكوّنوا خلفية علمية متكاملة تؤهلهم للتخصص لاحقاً في أحد فروع الشريعة، فالفئة الثانية من الطلبة، أي “المتخصصين”، لا بد أن يمرّوا في هذه المرحلة الأولى بتجربة علمية غنية، تمنحهم الأدوات الأساسية والمنهجية الراسخة، كي لا يكون انتقالهم إلى مرحلة التخصص فجائياً أو مرتجلاً، بل مبنياً على فهم ناضج وتمييز دقيق، وبالتالي فإن الربط بين البناء الأخلاقي والتأصيل العلمي هو ما يصنع في النهاية العالِم الرباني، الذي يجمع بين الإخلاص والمعرفة، وبين خشية الله وفهم النصوص، وبين فقه الواقع وفقه الشريعة.
وفي الختام، فإن إصلاح كليات الشريعة في سورية اليوم هو مشروع نهضة، لا مجرد تحديث أكاديمي، وهو عمل تربوي عميق، يتطلب جرأة في الطرح، وحكمة في التنفيذ، ويحتاج إلى عقول واعية وقلوب مخلصة، ترى في هذه الكليات وسيلة لصياغة وعي جديد، يؤسس لمجتمع متوازن، يجمع بين الإيمان والعقل، وبين الأصالة والمعاصرة، وبين الفقه والرحمة، وإن إصلاح كليات الشريعة هو الخطوة الأولى نحو إصلاح ديني شامل، يعيد للإسلام صورته النقية، ويقدم للناس علماء ربانيين، وتربويين مؤمنين، يصنعون الفرق في زمن الحاجة والضياع.
ما أحوجنا في هذا الزمن، أن نزرع بذور الإصلاح في مؤسساتنا، وأن نعيد للمساجد مدارسها، وللمدارس قيمها، وللعلم هيبته، وللدين روحه.