ضرب التلاميذ في المدارس – قراءة نقدية في الفعالية، والآثار، والبدائل

 مقدمة

في السابق كان أولياء الأمور في مجتمعنا السوري يتركون للعاملين في المدرسة «اليد الطولى» في تأديب أولادهم، وكان يُقال لهم: «اللحم لكم، والعظم لنا»، كناية عن تفويض كامل للمدرسة للتصرف مع التلاميذ، وهذا القول يحمل بين سطوره ثقة كبيرة في السلطة المدرسية، وتعبّر عن تفويضٍ مطلق للمدرسة في تأديبهم بالضرب، وقد كان الضرب، جزءاً من منظومة التعليم التقليدي، حيث كان يُنظر إليه على أنه وسيلة لتقويم السلوك وضبط الأخطاء، لا سيما في مجتمعاتٍ يغلب عليها الطابع الأبوي الصارم.

غير أن الزمن تغيّر، والتربية الحديثة والمفاهيم التربوية تطورت، والعلم الحديث ألقى بظلاله على كل ما يتعلق بنفسية الطفل وحقوقه وتكوينه، ولم تعد ترى في الضرب فعلاً تأديبياً، بل تعده فعلاً عقابياً يفتقر إلى القيمة التربوية، فالتربية في مفهومها المعاصر لا تقوم على إخضاع الطفل جسدياً، بل على بناء وعيه وإرادته، وما من علمٍ تربوي أو نفسي حديث يقرّ الضرب كأداة فعّالة للتعليم أو كوسيلة أخلاقية للتقويم، لأنه في جوهره تعبير عن العجز التربوي قبل أن يكون وسيلة ضبط، لأنه الحلّ الأسهل والأسرع الذي يلجأ إليه المعلم عندما يفقد أدوات الإقناع والتأثير.

تسعى هذه المقالة، بصفتها مساهمة أكاديمية متأنية، إلى تقديم إجابات مستندة إلى الأدلة حول جدوى الضرب كأداة تأديب في المدارس، وآثاره على نفسية التلاميذ وتحصيلهم، والرد على من يقولون ضربنا، ولم نتأذ، وبيان حديث الرسول عليه الصلاة والسلام في الضرب، وأحدث البدائل العملية المبنية على البحوث لرفع الانضباط والتحصيل دون إضرار بالطفل.

 مفهوم العقوبة البدنية

يُعدّ مفهوم العقوبة البدنية من المفاهيم التربوية والاجتماعية التي أثارت جدلاً واسعاً في الفكر التربوي الحديث، نظراً لتأثيرها المباشر على النمو النفسي والسلوكي للطفل.

وهي أي عقوبة يتم فيها استخدام القوة البدنية وتهدف إلى التسبب في درجة معينة من الألم أو الانزعاج، مهما كانت خفيفة. هكذا تعرف لجنة الأمم المتحدة لحقوق الطفل، العقوبة البدنية.

ويشمل ضرب الأطفال (الصفع، الضرب على الوجه) باليد أو بأداة (السوط، العصا، الحزام، الحذاء، أو ما شابه ذلك)، كما قد تشمل ركل الأطفال، أو هزهم، أو رميهم، أو خدشهم، أو قرصهم، أو عضهم، أو سحب شعرهم، أو لكم آذانهم، أو إبقائهم في أوضاع غير مريحة.

 الآثار النفسية والاجتماعية للضرب على التلاميذ

تشير الدراسات النفسية إلى أن الضرب ليس مجرد تجربة مؤلمة عابرة، بل هو صدمة نفسية تترك آثارها في تكوين الشخصية، فالطفل الذي يُضرب في المدرسة يفقد شعوره بالأمان، ويتحوّل المكان الذي يُفترض أن يكون بيئةً للتعلّم إلى مصدر خوف وتهديد.

وقد اتجهت البحوث التربوية والنفسية خلال العقود الأخيرة نحو دراسة آثار العنف المدرسي، بما فيه الضرب، على النمو النفسي والاجتماعي للطفل، وقد خلصت معظم الدراسات إلى أن الضرب يخلق أنماطاً من السلوك السلبي لدى التلاميذ، منها:

  • الخضوع القسري، حيث يتعلم الطفل الطاعة لا عن قناعة، بل خوفاً من العقاب.
  • العنف المضاد، إذ يتحوّل الضرب إلى نموذجٍ يتعلمه الطفل ويكرّره لاحقاً مع أقرانه أو أبنائه.
  • انخفاض تقدير الذات، فالطفل يشعر بالإهانة والدونية، ما يضعف ثقته بنفسه، ويحدّ من طموحه ومن تطور تفكيره النقدي والاستقلالي، لأن الطفل يتعلم الخضوع لا الاختيار.
  • القلق والاكتئاب، حيث يرتبط الضرب باضطرابات عديدة منها القلق والاكتئاب.
  • العلاقة الإنسانية، فالضرب يضعف الروابط العاطفية بين المعلم والتلميذ، ما يفقد العملية التعليمية بعدها الإنساني.

إن الضرب، من منظورٍ نفسي، لا يصحّ أن يُسمى “تأديباً”؛ لأن التأديب الحقيقي يقوم على بناء الوعي الذاتي وضبط السلوك من الداخل، لا على الإكراه الخارجي، ومن هنا، يفرّق علماء النفس التربوي بين الضبط التربوي والعقاب البدني؛ فالأول وسيلة تعليمية راشدة، والثاني إجراء انتقامي يفتقر إلى الفهم.

 ولكن هل الضرب يرفع من التحصيل العلمي للتلاميذ؟

يعتقد بعض المربين القدامى أن الضرب وسيلة لتحفيز التلاميذ على الاجتهاد، وأنه يزرع فيهم الانضباط والجدية، لكنّ الأبحاث الحديثة جاءت بنتائج مغايرة تماماً، فقد خلصت دراسات أجرتها جامعات عالمية إلى أن الضرب يؤدي إلى انخفاض الأداء الأكاديمي لدى التلاميذ على المدى الطويل، وأن التلاميذ الذين يتعرضون للعقاب البدني يتعلمون بطريقة سطحية قائمة على الحفظ المؤقت، لا على الفهم العميق.

ويُضاف إلى ذلك أن بيئة الخوف تقتل الدافعية الداخلية للتعلم، إذ يصبح الطالب منشغلاً بتجنّب العقاب أكثر من انشغاله بتحقيق النجاح، أما الشعور بالكرامة والأمان النفسي، فهو الشرط الأول للإبداع والمشاركة والتعبير، وهي كلها قيم جوهرية في العملية التعليمية الحديثة.

وقد تبنّت منظمة اليونيسف ومنظمة الصحة العالمية مواقف حازمة ضد العنف البدني في المدارس، داعيةً إلى حظره قانونياً وتربوياً، كما أشارت تقارير اليونيسف في الشرق الأوسط إلى أن العنف المدرسي يفاقم التسرب من التعليم، ويضعف الثقة بالمؤسسات التربوية، خصوصاً في البيئات المتأثرة بالنزاعات.

 ردّ على مقولة: “لقد ضُربنا ولم يحدث لنا شيء”

تُستخدم هذه الجملة كثيراً لتبرير استمرار العنف المدرسي: “نحن ضُربنا في الصغر، ولم نتأذَّ، بل أصبحنا ناجحين.”

لكنّ هذا القول يحمل مغالطة علمية ونفسية، فالنجاح الظاهر لا يعني بالضرورة أن التجربة لم تترك آثارها، فكثير من الناجحين الذين تعرضوا للضرب قد يعانون – دون وعي – من آثار نفسية عميقة، مثل ضعف الثقة بالآخرين، أو نزعاتٍ سلطويةٍ في التعامل مع زوجاتهم وأبنائهم.

الضرب لا يُقاس بنتائجه الظاهرة، بل بما يغرسه من قيمٍ خاطئة في الوعي الجمعي مثل “القوة تصنع الحق”، “وأن الإخضاع وسيلة للتربية”، وهذه الأفكار، إن استمرت، تعيد إنتاج العنف جيلاً بعد جيل.

أن نقول “لم يحدث لنا شيء” هو تجاهل لما كان يجب أن يحدث: بيئة آمنة، تربية قائمة على الاحترام، وتعليم يُبنى على الحوار لا على العقاب، فالتجارب المؤلمة لا تُمحى بالإنكار، بل تُعالج بالفهم، والمراجعة، والتغيير.

التربية الحديثة لا تحتفي بالصبر على الأذى، بل تسعى لمنع الأذى من الأساس، والوعي التربوي لا يُقاس بمدى تحمل الألم والأذى، بل بمدى القدرة على رفضه، وحماية الأجيال القادمة منه، وكذلك التربية الحديثة لا تنكر أهمية الحزم، لكنها تميّز بين الحزم العادل والعنف المؤذي، فالمربي الحقيقي هو من يجمع بين الرحمة والانضباط، لا من يُخضع التلميذ خوفاً، بل من يقوده وعياً.

وما يجدر الإشارة إليه هو أن من أبرز الإشكاليات التي تواجه مجتمعنا هي الفجوة بين التفوق الفردي والتخلف الجماعي، فقد نجد في كل جيل أطباء ومهندسين وعلماء وأساتذة ناجحين على المستوى الشخصي، لكننا لا نرى بالضرورة مجتمعاً متقدماً بالمعنى الجمعي، وهذه المفارقة ليست قدراً محتوماً، بل هي نتاج مباشر لطبيعة النظم التربوية وأساليب التنشئة والتعليم التي سادت في مدارسنا لعقود طويلة، فحين تربي المدرسة التلميذ على الخوف والطاعة القسرية بدلاً من المسؤولية والاحترام المتبادل، فإنها تُنتج أفراداً قادرين على النجاح الشخصي في ظل السلطة، لكنهم يفتقرون إلى روح الفريق والمبادرة الجماعية.

الضرب والعنف، وإن بديا وسيلة لتأديب الفرد، إلا أنهما في العمق يهدمان الثقة الاجتماعية، ويزرعان في اللاوعي الجماعي شعوراً بالمهانة والخضوع، وهو ما ينعكس لاحقاً في علاقة المواطن بالمؤسسة، والعامل بالإدارة، والمجتمع بالدولة.

لقد أظهرت دراسات علم النفس الاجتماعي والتربوي أن أنماط التعليم السلطوي تُنتج مجتمعات تابعة لا مبدعة، ومواطنين يتجنبون المسؤولية أو النقد، لأنهم تربّوا على الخوف من الخطأ أكثر مما تربّوا على السعي إلى الصواب.

ومن هنا، فإنّ إلغاء العنف المدرسي ليس قضية أخلاقية فحسب، بل هو خطوة في بناء مجتمع قادر على العمل الجماعي والإبداع المؤسسي، فالمجتمع لا يُقاس بعدد المتفوقين فيه، بل بقدرته على تحويل تفوق الأفراد إلى قوة جماعية منظّمة، وحين تكون المدرسة بيئة حوار واحترام وعدل، فإنها تُنشئ أجيالاً تعرف كيف تتعاون لا كيف تتغلب، وكيف تبني لا كيف تخاف، وبذلك يتحول التفوق الفردي إلى تفوق اجتماعي حقيقي.

إنّ تحرير التربية من منطق الضرب والعقاب هو بداية لتحرير المجتمع من منطق الخضوع والانقسام، وبناء ثقافة تقوم على الكرامة والتكامل والمسؤولية المشتركة.

 البدائل الحديثة للضرب في ضبط السلوك

لحماية كرامة المعلم وصون مكانته في ظل غياب العقوبات البدنية وتراجع دور الأسرة، لا بد من اعتماد منظومة متكاملة من البدائل والاستراتيجيات التربوية والإدارية، تجمع بين دعم المعلم وتعزيز الانضباط الطلابي بروح تربوية راقية، فلم تعد فكرة “العقوبة البدنية” مقبولة تربوياً، إلا أن غياب الضرب، لا يعني غياب النظام، فالمدرسة ما زالت بحاجة إلى أدواتٍ لضبط السلوك وتصحيح الأخطاء، وهنا ظهرت مفاهيم الانضباط الإيجابي والتربية بالحب والمسؤولية، ويمكن تلخيص ذلك في الأفكار الآتية:

1. تفعيل الأنظمة المدرسية والانضباط الإداري:

غياب العقوبة الجسدية لا يعني غياب النظام، حيث يمكن للمدرسة أن تعتمد لوائح سلوك واضحة تُحدّد ما هو مقبول وما هو مرفوض، وتضع عقوبات تربوية ومنطقية بديلة، تربط الخطأ بنتائجه مثل: كتابة تعهدات سلوكية، وإشراك ولي الأمر في جلسة انضباطية، والحرمان من بعض الأنشطة المحببة، وأيضاً وضوح النظام وثبات تطبيقه يحفظ هيبة المعلم دون أن يضطر لمواجهة شخصية أو انفعال مباشر.

2. دعم الإدارة التربوية للمعلم عند تعرضه للإساءة:

حين يُهان المعلم أو يُساء إليه، يجب أن يشعر أن الإدارة تقف معه بوضوح وعدل، وينبغي أن يكون هناك نظام شكاوى منصف يضمن حق المعلم كما يضمن حق الطالب، لأن غياب العدالة يولّد الإحباط ويهدم الثقة بالمؤسسة التعليمية، فهيبة المدرسة تُستعاد عندما يرى الجميع أن كرامة المعلم مصانة بالقانون والنظام، لا بالعنف أو الانتقام.

3. إشراك أولياء الأمور وتحميلهم مسؤولية المتابعة:

من المهم إعادة بناء جسور التواصل بين المدرسة والأسرة، من خلال لقاءات منتظمة، ورسائل تربوية، ومجالس أولياء أمور فاعلة، فحين يدرك الوالدان أن المدرسة ليست خصماً بل شريكاً، يصبح سلوك الابن مسؤولية مشتركة، ويشعر المعلم أنه مدعوم لا متروك وحده أمام الفوضى.

4. تمكين المعلم وتدريبه على إدارة الصفّ الإيجابية:

البديل العملي للضرب هو الضبط التربوي الذكي الذي يعتمد على مهارات التواصل، وبناء علاقة احترامٍ متبادل، وضبط الانفعالات، واستخدام التعزيز الإيجابي، وإدارة المواقف الصعبة بأسلوب هادئ، وكذلك تدريب المعلمين على هذه المهارات يجب أن يكون جزءاً من التنمية المهنية المستمرة، لأنها تمنحهم أدوات واقعية للتعامل مع السلوكيات الصعبة دون فقدان هيبتهم أو أعصابهم.

5. بناء ثقافة الاحترام المتبادل داخل المدرسة:

كرامة المعلم لا تُصان بالعقاب، بل بترسيخ ثقافة الاحترام في المدرسة منذ اليوم الأول، حيث ينبغي أن تُدرّس قيم الأدب والتقدير من خلال الأنشطة والحوارات والمناهج الخفية، وأن يشعر التلميذ أن احترام المعلم جزء من شخصيته المتحضرة، لا سلوكاً مفروضاً عليه، فحين يترسخ الاحترام كقيمة، تقلّ الحاجة إلى العقاب.

6. قياس تأثير التدخل:

ضرورة قياس تأثير التدخلات العقابية عبر مؤشرات بسيطة (مثل معدلات الغياب، الحوادث السلوكية، وتحسّن النتائج الدراسية) ليتسنّى تقييم ما ينجح وما يحتاج تعديلًا.

بهذه البدائل يتحوّل الانضباط من أداة قسرية إلى قيمةٍ داخليةٍ يعيشها التلميذ عن قناعة لا خوفاً، فالمعلم الناجح لا يُعرّف بقدرته على العقاب، بل بقدرته على الإقناع، فشخصيته، وعدالته، وحكمته في التعامل، هي ما يضبط الصفّ دون عنف، والإدارة التربوية بدورها مسؤولة عن بناء ثقافة مدرسية قائمة على احترام الطفل، وعن تدريب الكادر التعليمي على مهارات إدارة الصفّ بطرق إنسانية وفعالة.

كما ينبغي أن يُربّى المعلمون على فهم الدوافع النفسية للسلوك غير المنضبط، لأن كثيراً من مشكلات التلاميذ ليست عناداً، بل انعكاساً لظروفٍ أسرية أو ضغوطٍ نفسية، فكل سلوكٍ خاطئ يحمل وراءه رسالة، وعلى المعلم أن يقرأها بعين المربي، لا بعين القاضي.

 خاتمة

الضرب في المدارس ليس حلّاً تربوياً مقبولاً أو فعّالاً بحسب الأدلّة العلمية الحديثة، بل إنه يعرّض التلاميذ لمخاطر نفسية وجسدية، ولا يحسن التحصيل على المدى الطويل.

بالمقابل، هناك بدائل مثبتة علمياً تُحقق ضبطاً سلوكياً مستداماً وتحسّناً في بيئة التعلم، لكنها تتطلب قراراً سياسياً، وتدريباً للمعلّمين، وتغييراً ثقافياً يشارك فيه المجتمع المدرسي بأكمله، لذا فإن الخطوة القادمة هي الانتقال من مناقشة المسألة إلى تنفيذ برامج تجريبية محلية وتقييمها علمياً ليتسنى بعد ذلك تعميم ما ثبتت فعاليته، مع التزام كامل بحماية كرامة التلميذ وحقوقه، بعد صون كرامة المعلم وتقديسه اجتماعياً.

وسوم

عن الكاتب

د عبد المهيمن ديرشوي

دكتوراه في المناهج وطرائق التدريس

اقرأ لـ د عبد المهيمن ديرشوي