الواجبات المنزلية “قراءة نقدية في أدوار المدرسة والبيت”
د عبد المهيمن ديرشوي
أكتوبر 9, 2025
5 دقائق
د عبد المهيمن ديرشوي
أكتوبر 9, 2025
5 دقائق
مقدمة
تُعَدّ الواجبات المنزلية ظاهرة تربوية قديمة، وإحدى أكثر القضايا التربوية إثارة للجدل في مختلف المراحل التعليمية، فهل هي وسيلة تعليم فعّالة؟ أم عبء لا يقدم أداءً علمياً متسقاً؟
في هذه المراجعة المختصرة أتناول أصول الفكرة، والدليل التجريبي على أثرها، والعلاقة بين المدرسة والمنزل، وأبرز المآخذ العملية عليها، مع إبراز أن «البيوت ليست مدارس ثانية» و«الأمهات ليست معلمات» بصياغة نقدية مدعمة بالأدلة، وانتهي بتوصيات عملية للسياسات الصفّية والأسَرِيّة.
أصول الواجبات المنزلية
تشير بعض المصادر التربوية إلى أن الواجبات المنزلية لم تُبتكر أصلاً بوصفها أداة تعليمية، بل وُجدت في بداياتها كنوع من العقاب الذي يُفرض على بعض الطلبة المتهاونين داخل الصف، فقد كان بعض المعلمين يكلّفون الطلبة الضعفاء أو المشاغبين بمهام إضافية يؤدونها في بيوتهم، files.eric.ed.gov+1 ظناً أن ذلك سيزيد من ضبطهم ويعوّض تقصيرهم، غير أن هذه الممارسة سرعان ما تحولت، مع مرور الوقت، إلى نهج متّبع لدى فئة من المعلمين، الذين اعتبروا أن إعادة التدريبات أو حل مسائل إضافية في المنزل يمكن أن يسهم في ترسيخ المفاهيم التي جرى تناولها في الصف.
هذا التحول من العقاب إلى المنهجية يفسر لنا جانباً من الجدل القائم حول الواجبات المنزلية، فالمؤيدون يرونها وسيلة لضبط التعلم وتعزيزه، في حين لا يزال المعارضون ينظرون إليها كعبء غير عادل يثقل كاهل المتعلم وأسرته.
وتظهر وثائق متنوعة عن مناقشات عامة وسياسات رسمية تعكس تقلب المواقف تجاه الواجبات عبر الزمن (مثلاً حظر ولاية كاليفورنيا للواجب لطلبة دون سن 15 بين 1901 و1917، وابتداءً من أبريل 2024، وزارة التعليم في بولندا قررت أن المعلمين في التعليم الابتدائي لا يُفترض أن يعطوا واجبًا منزلياً إلزامياً). Notes From Poland
المدرسة والواجبات المنزلية
تلعب المدرسة دوراً محورياً في تصميم وتوجيه الواجبات المنزلية، وهي الجهة التي تحدد نوعية المهام، ومدى ارتباطها بالمناهج، وطريقة تقييمها، ومع ذلك، فإن هذا الدور لا يخلو من إشكاليات، أبرزها:
– كثير من المدارس تعتمد على تكليف الطلاب بواجبات مكثفة، ظناً أن كثرة المهام تعني مزيداً من التعلم، في حين أن الدراسات التربوية تشير إلى أن الفعالية ترتبط بجودة الواجب لا بكميته.
– غالباً ما تُصمم الواجبات بطريقة موحدة لجميع الطلاب، دون مراعاة الفروق الفردية في القدرات، والميول، وظروف البيئة المنزلية، مما يؤدي إلى شعور بالإحباط لدى بعض الطلاب.
– في بعض الحالات، تُستخدم الواجبات المنزلية كأداة للتقييم النهائي، رغم أن إنجازها قد يعتمد على دعم خارجي من الأسرة أو الدروس الخصوصية، مما يخل بمبدأ العدالة التربوية.
– تُلاحظ أحياناً فجوة بين ما يُدرس في الصف وما يُطلب في الواجب، مما يجعل الطالب يتعامل مع المهمة كعبء منفصل، لا كامتداد طبيعي للتعلم.
ماذا تقول البحوث التجريبية عن فعالية الواجب المنزلي؟
تُظهر البحوث التجريبية، أن أثر الواجب المنزلي على التحصيل الدراسي ليس مطلقاً أو ثابتاً، بل يتباين تبعاً لعدد من العوامل، أهمها: المرحلة العمرية للطالب، طبيعة المهام الموكلة، وخصائص تصميم الدراسات التي تقيس الفاعلية.
ففي المرحلة الثانوية، حيث يمتلك الطلبة قدراً أكبر من النضج المعرفي والقدرة على التنظيم الذاتي، تُظهر البيانات أن الواجبات المنزلية يمكن أن تسهم إسهاماً واضحاً في رفع مستويات التحصيل، ويرجع ذلك إلى أن هذه المرحلة تتيح فرصاً أفضل للمتعلمين لممارسة استراتيجيات “التعلم المتعمد” كحل مسائل الرياضيات، أو كتابة مقالات تحليلية، أو مراجعة مفاهيم علمية معقدة، وقد أشار Cooper وآخرون (2006) إلى أن الواجبات المصممة بعناية في هذه المستويات ترتبط ارتباطاً موجباً وملحوظاً بتحسن الأداء في الاختبارات المعيارية.
أما في المراحل المبكرة (رياض الأطفال والمرحلة الابتدائية)، فتشير الأدلة إلى أن الفوائد الأكاديمية للواجبات المنزلية محدودة للغاية أو شبه معدومة، فالأطفال في هذه السن بحاجة أكبر إلى أنشطة خبراتية مباشرة، ولعب تعليمي، وتفاعل اجتماعي، أكثر من حاجتهم إلى أوراق عمل أو مهام مكتبية، ولهذا نجد أن بعض الأنظمة التعليمية، مثل فنلندا، تحدّ أو حتى تلغي الواجبات المنزلية في الصفوف الأولى، معتبرة أن الأنشطة الصفية والخبرات الحياتية أكثر جدوى في بناء الأساس المعرفي والمهاري. Frontiers
إضافة إلى ذلك، تتفق نتائج البحوث على أن “الكم” ليس هو العامل الحاسم في فعالية الواجب، بل “النوعية” والملاءمة، فالتكليفات التي تتسم بالوضوح، والارتباط المباشر بأهداف الدرس، وتراعي مستوى الطالب وقدراته، تعزز فرص التعلم أكثر بكثير من واجبات عشوائية بلا غرض واضح، أما الواجبات الطويلة أو المتكررة بشكل مبالغ فيه، فإنها بعد نقطة معينة (تُقدَّر عادة بساعتين يومياً في المرحلة الثانوية)، لا يضيف الواجب قيمة تعليمية، بل قد يبدأ في التأثير سلباً على صحة الطالب ورفاهيته، وتشمل هذه الآثار السلبية: الحرمان من النوم، ارتفاع معدلات التوتر والقلق، قلة التوازن بين الحياة المدرسية والاجتماعية، وضعف الدافعية الداخلية للتعلم.
ومن جهة أخرى، تشير بعض الدراسات الحديثة إلى أن الواجب المنزلي يمكن أن يكون مفيداً إذا أُعيد تصميمه بوصفه “امتداداً للتعلم” بدلاً من “إعادة للتدريبات”، أي أن يُوظَّف كفرصة لإشراك الطلبة في مهام مفتوحة النهاية، مثل إجراء تجربة علمية بسيطة في المنزل، أو مقابلة أحد أفراد العائلة حول موضوع تاريخي، أو كتابة انعكاس شخصي قصير حول درس معين، وهذه الأنواع من الواجبات تسهم في تنمية مهارات التفكير النقدي والإبداعي، وتربط التعلم بالخبرات الواقعية. https://2u.pw/u5ANpR
البيوت ليست مدارس ثانية
يجب التمييز بوضوح بين دورَيِ البيت والمدرسة من المنظور النظري والعملي، فمعلوم أن دور البيت هو الرعاية والتربية، حيث أن البيوت مسؤولة عن التربية بالمعنى الاجتماعي والنفسي، لأنها تعمل على تشكيل القيم والسلوكيات (الانضباط الذاتي، احترام الآخرين)، وتوفير بيئة عاطفية آمنة، وعادات النوم والأكل السليمة، ودعم اللغة الأم، وتعليم مهارات حياتية كتنظيم الوقت، وإنجاز الواجبات المنزلية كمسؤولية، هذه هي وظائف تربوية لا تغني عنها المدرسة ولكنها تكملها.
بينما دور المدرسة هو تعليم منهجي، أي أن المدرسة توفر تعليماً منظماً، ومناهج مدروسة، وطرق تقويم، وتعليم امتدادي كحجز وقت مخصّص لتعلم القراءة الموجهة، ومختبرات علوم تسمح بتجارب لا يمكن تنفيذها منزلياً، والعمل التعاوني الموجَّه، ودروس حسابية متدرجة تعتمد على بنى معرفية مبنية بواسطة المعلم، وهذا التمييز يؤكد أن تحويل البيت إلى «مدرسة ثانية» يخل بطبيعة كل دور، ويُفرِغ المدرسة من أدواتها المنهجية.
الأمهات ليست معلمات
الواقع العملي يبيّن أن كثيراً من أولياء الأمور، وغالبيتهم أمهات في كثير من الثقافات، يقدمون دعماً حقيقياً، لكنهم غالباً لا يمتلكون بالضرورة المنهج التربوي والمعرفة اللازمة لتدريس مفاهيم معقدة أو لتقديم تغذية راجعة فعالة، فالأدلة تشير إلى أن:
باختصار: الأم يمكن أن تدعم، ولكن لا يلزم أن تملك مهارات أو وقتاً أو معلومات منهجية لتكون «معلمة» فعّالة، لذلك توجيه ووضع أدوار واضحة أفضل من تحميل الأسرة عبء تعليم منهجي متكامل، وهو ليس مسؤوليتها.
توصيات بشأن الواجب المنزلي
فيما يأتي مجموعة من التوصيات المهمة، والبناءة على الأدلة العملية والبحوث والدراسات حول الواجبات المنزلية:
خاتمة
الواجبات المنزلية ليست «شرّ مطلق» ولا «حلّ شامل»، كتابتها وتنفيذها يجب أن يستند إلى أهداف تعليمية واضحة، واعتبار للمساواة الاجتماعية، وتعليم لأولياء الأمور كيف يكونون داعمين لا مُنجزين للعمل بدلاً من أبنائهم، ومن الضروري أيضاً الحفاظ على الحدود: «البيت مكان التربية والرعاية، والمدرسة مكان التعليم المنهجي»؛ ومن ثمّ أن نقرّ بأن الأمهات (والآباء) شركاء مهمون وليسوا بالضرورة معلمين محترفين، ولذلك يتطلب نجاح سياسة الواجب المنزلي تضافر جهود المدرسة مع دعم الأسر.
المراجع