الاسترجاع الوردي للماضي

مع كل خطوة نخطوها في رحلتنا في الحياة، تظهر ظاهرة ملفتة غالباً ما ترافقنا، إنها تلك اللحظات الجميلة التي ننظر إليها بتأمل وشوق، معتقدين أن الماضي كان أكثر جمالاً وبساطة. هذه القدرة على تلوين الماضي بألوان الحنين والإيجابية تعرف بالاسترجاع الوردي للماضي.

في هذا المقال سنستكشف مفهوم الاسترجاع الوردي الرائع ونبحث في كيفية تأثيره على الطريقة التي ننظر بها إلى تاريخنا الشخصي. ما هي الأسباب التي تدفعنا إلى رؤية الماضي بهذا العرض الرومانسي؟، وما هي الآليات النفسية التي تلعب دوراً في ذلك؟ وهل الاسترجاع الوردي مجرد وهم، أم أنه يخدم غرضاً أعمق في حياتنا؟

تخيل أنه قبل بضع سنوات شرعت في رحلة تخييم مع عدد قليل من الأصدقاء، كان لديك العديد من الذكريات، سواء كانت إيجابية أو سلبية. لقد تبادلتم الضحكات على نار المخيم، وأكلتَ أطايب الطعام، وأنشدت أعذب أغاني، وشاهدت العديد من المناظر الرائعة للطبيعة. بالإضافة إلى هذه الذكريات الجميلة، لقد عانيت أيضاً من العديد من لدغات الحشرات المسببة للحكة، وكان الطقس حاراً، وكان الطعام على وشك النفاد، ورغم ذلك، مع مرور الوقت، قد تتذكر الذكريات الجميلة بينما تنسى التجارب غير السارة، يشار إلى هذه الظاهرة باسم الاسترجاع الوردي، وهو تحيز معرفي يحدث عندما يحكم المرء بشكل غير متناسب على الأحداث بشكل أكثر إيجابية بعد حدوثها مقارنة بوقت حدوثها.

بمعنى آخر التفاصيل السلبية للأحداث الماضية تخرج من ذاكرتنا مع مرور الوقت بينما تبقى الجوانب الإيجابية لتجاربنا الماضية. من الجيد أن يحدث هذا، لأنه يبقينا في حالة ذهنية إيجابية في الوقت الحاضر. إذا لم تعمل عقولنا بهذه الطريقة، فمن غير المرجح أن نذهب في نفس الرحلة في العام المقبل أو ننخرط في أنشطة أخرى مهمة لرفاهيتنا النفسية. في الواقع، الأشخاص الذين يميلون إلى تذكر التجارب السلبية أكثر من التجارب الإيجابية من المرجح أن يظهروا اضطرابات مزاجية مثل الاكتئاب. وبعبارة أخرى، فإن الاسترجاع الوردي للماضي هو تحيز معرفي، ولكنه، مثل العديد من التحيزات المعرفية، يخدم غرضاً مهماً.

أحد المجالات التي يظهر فيها الاسترجاع الوردي بشكل واضح هو العلاقات العاطفية، فعندما ننفصل عن شريك أو ننهي علاقة، قد نشعر بالحزن والأسى والخسارة، لكن بعد مرور بعض الوقت قد نبدأ في استذكار الأوقات الوردية والرومانسية التي قضيناها معه، ونتجاهل أو نبرر الخلافات والصراعات التي أدت إلى انتهاء العلاقة. قد نشعر بالحنين والندم والرغبة في العودة إلى ما كان، وقد نفكر أن شريكنا السابق كان أفضل شخص لنا، وأن حياتنا لن تكون كاملة بدونه.

ولكن هل هذه الطريقة في تذكر الماضي صحيحة؟ هل تساعدنا على التغلب على كسر قلبنا أم تزيد الأمور سوءاً؟

وفقاً لـ Mark Travers يمكن أن يؤدي ذلك إلى أخطاء في عملية اتخاذ القرار السليم. على سبيل المثال، إنه أحد الأسباب التي تجعلنا نرتد إلى علاقات إشكالية. كلما مر وقت أطول منذ أن مررنا بالآثار السلبية لعلاقة مسيئة، كلما زاد احتمال أن نسمح للذكريات الجيدة بأن تتفوق على الذكريات السيئة وربما نسامح السلوك الذي لا يغتفر. (Travers, 2021)

لماذا يلجأ الناس للاسترجاع الوردي للماضي؟

وفقاً لـ Itamar Shatz يمكن أن يعزى ميل الناس إلى تجربة الاسترجاع الوردي إلى عدة عوامل:

أولاً: عندما يواجه الناس حدثاً معيناً، فإنهم نتيجة لذلك تحصل لديهم أفكار إيجابية وسلبية، والتي تنتج الأخيرة عن مشكلات مختلفة، مثل خيبات الأمل أو الشعور بعدم السيطرة، إلا إنه غالباً ما تكون هذه الأفكار السلبية قصيرة العمر، مما يعني أنه بمرور الوقت، ينتهي الأمر بالناس إلى نسيانها، مما يتركهم بذاكرة أكثر إيجابية للحدث.

ثانياً: بالإضافة إلى ذلك، هناك تفسير آخر محتمل لهذه الظاهرة، والذي يعتمد على نظرية التنافر، وهو أن الناس ينخرطون في هذا الشكل من التكيف النفسي من أجل تبرير أفعالهم بعد تجربة تهدد الطريقة التي ينظرون بها إلى أنفسهم. وبالمثل قد يقوم الأشخاص أيضاً بتعديل ذكرياتهم عن الأحداث الماضية من أجل جعل تلك الذكريات تتوافق مع نظرتهم لأنفسهم، على سبيل المثال، من خلال تذكر أنفسهم على أنهم أكثر جرأة وأفضل اجتماعياً ونجاحاً مما كانوا عليه في الواقع، وهو ما يمكن بدوره أن يجعل الأحداث التي يرونها كانت تبدو أكثر إيجابية.

بشكل عام تشير الأبحاث إلى أن السبب الرئيسي وراء تجربة الناس للاسترجاع الوردي للماضي هو أنهم يميلون إلى نسيان الأجزاء السلبية والمحايدة من بعض تجارب الماضي، مما يجعل تلك التجارب تبدو أكثر إيجابية. ومع ذلك، هناك عوامل أخرى، مثل الرغبة في تبرير أفعال الماضي، يمكن أن تفسر أيضاً سبب تجربة الناس لهذه الظاهرة. (Shatz, 2023)

فوائد ومخاطر الاسترجاع الوردي للماضي:

حقيقة أن الاسترجاع الوردي للماضي يجعلك تتذكر الأحداث الماضية بطريقة إيجابية للغاية يمكن أن تكون مفيدة وخطيرة في نفس الوقت.

وفقاً لـ Itamar Shatz إحدى الفوائد البارزة لاسترجاع الماضي الوردي هو أنه يمكن أن يساعدك على الشعور بالتحسن تجاه الأحداث الماضية، ويعد هذا مفيداً عندما يكون الحصول على ذاكرة أكثر إيجابية لحدث ما سيجعلك أكثر سعادة على المدى الطويل، أو عندما يساعدك نسيان بعض الجوانب السيئة لحدث ما على التعامل معه دون أي عواقب سلبية.

على سبيل المثال إذا قدمت عرضاً تقديمياً بشكل جيد باستثناء بعض الأخطاء الصغيرة، فسيكون من المفيد بشكل عام التركيز على الأداء الجيد بدلاً من الهوس بهذه الأخطاء الصغيرة. وهذا صحيح بشكل خاص إذا كنت تعاني من القلق، مما قد يجعلك تبالغ في التأكيد على أخطائك، وتركز عليها بدرجة غير صحية عند التفكير في الأحداث الماضية.

بالإضافة إلى ذلك فإن معرفة أنك تميل إلى أن تكون لديك نظرة وردية في الماضي يمكن أن يدفعك إلى اتخاذ إجراءات مستقبلية إيجابية لم تكن لتفعلها لولا ذلك. على سبيل المثال يمكنك اختيار المشاركة في أحداث معينة لأنك تعلم أنك ستستمتع بتذكر تلك الأحداث لاحقاً، حتى لو كانت الأحداث نفسها لا ترقى إلى مستوى توقعاتك في الوقت الحالي، وقد يدفعك هذا إلى اتخاذ المزيد من المخاطر الإيجابية في حياتك، من أجل خلق ذكريات سعيدة لنفسك.

إلا أن هناك أيضاً مواقف حيث يمكن أن يؤثر عليك الاسترجاع الوردي بطريقة إشكالية. على سبيل المثال:

يمكن أن يؤدي الاسترجاع الوردي للماضي إلى تجاهل أخطاء الماضي بطريقة تمنعك من التعلم منها، ففي بعض الحالات، قد يكون من المفيد تجاهل أخطائك الماضية، وخاصة إذا كان تذكرها لن يساعدك على تحسين نفسك بأي شكل من الأشكال، لكن ليس هذا هو الحال دائماً، وإذا كان الاسترجاع الوردي يعني أنك تتجاهل كل أخطاء الماضي التي ارتكبتها، فسوف يعيق ذلك قدرتك على التعلم والتحسن.

يمكن أن يؤدي ذلك إلى تجاهل الجوانب السلبية من تجارب الماضي، بطريقة تجعلك تضع نفسك دون داعٍ في مواقف سلبية. في بعض الحالات يمكن أن تكون القدرة على نسيان الجوانب السلبية لتجربة معينة مفيدة، كما لو أنها تساعدك على التغلب على الخوف من الرغبة في المحاولة مرة أخرى. على سبيل المثال لا ينبغي أن تعني تجربة واحدة سيئة في التحدث أمام الجمهور أنك لن تحاول أبداً إلقاء خطاب مرة أخرى.

هناك أيضاً مواقف تكون فيها القدرة على تذكر الجوانب السلبية للتجارب الماضية أمراً بالغ الأهمية لحمايتك من وضع نفسك في مواقف خطيرة بشكل متكرر، ومن الأمثلة المتطرفة على ذلك ضحايا العنف المنزلي الذين ينسون أحياناً التجارب السلبية التي مروا بها على يد المعتدي عليهم، مما قد يدفعهم إلى العودة إلى مواقف قد يتعرضون فيها للأذى. (Shatz, 2023)

تشير الأبحاث النفسية عموماً إلى أن أفضل أيامنا هي أمامنا وليست خلفنا. على سبيل المثال تتبعت إحدى الدراسات مسار تفاؤل الناس مع مرور الوقت. ووجد الباحثون أن التفاؤل كان في أدنى مستوياته في العشرينات من عمر الناس، ثم ارتفع تدريجياً خلال الثلاثينيات والأربعينيات من عمر الناس، وبلغ ذروته في الخمسينات من عمر الناس، ثم انخفض تدريجياً بعد ذلك. وجدت دراسة أخرى أن الرضا عن الحياة في البلدان الأنجلو-مثل الولايات المتحدة وأستراليا وكندا والمملكة المتحدة- يميل إلى التحسن مع تقدم العمر. (Travers, 2021)

بمعنى آخر هناك أدلة جيدة تشير إلى أن أسعد أيامك لم تأت بعد. وحتى لو لم تكن كذلك، فمن المهم أن نفترض أنها كذلك. لا تخجل من النظر إلى الماضي بدرجة معينة من الحنين. ولكن، وعلى نفس المنوال، لا تستخدم الماضي كذريعة لعدم السعادة في الوقت الحاضر.

ختاماً:

في ختام هذا الاستكشاف لظاهرة الاسترجاع الوردي، لنكن واعين لهذه القوة النفسية ونستثمر فيها لتحسين نوعية حياتنا. فلنعيش بحكمة وشكر، ولنتجاوز التحديات بتفاؤل. فالاسترجاع الوردي ليس مجرد طريقة لنرى الماضي بشكل أفضل، بل هو أيضاً وسيلة لنعيش بشكل أفضل في كل يوم.

المراجع:

وسوم

عن الكاتب

مركز مداد للدراسات والبحوث التربوية

مركز بحثي يختص بالعلوم التربوية والنفسية، والاستشارات الاجتماعية والتنموية، في جوانبها النظرية والتطبيقية، ويعنى باحتياجات المجتمع سواء داخل سورية أو في بلدان اللجوء

اقرأ لـ مركز مداد للدراسات والبحوث التربوية