تحقيق الذات في علم النفس

يعتبر مفهوم “تحقيق الذات” أحد أهم محاور تطوير الفرد وتنمية إمكانياته، ويمثل رحلة دائمة من التعلم والنمو الشخصي، حيث يسعى الفرد لاكتشاف ميوله واهتماماته وتطوير مهاراته، ويعتمد هذا المفهوم على فهم عميق للذات.

في هذا المقال سنستكشف مفهوم تحقيق الذات بمزيد من التفصيل ونناقش أهميته في تطوير الفرد وتحقيق السعادة والرضا الشخصي. سنتناول أيضاً بعض الإستراتيجيات والنصائح التي يمكن أن تساعد الأفراد على البدء في رحلة تحقيق الذات وتطوير أنفسهم.

تعريف تحقيق الذات

تعرف جمعية علم النفس الأمريكية تحقيق الذات بأنه “مفهوم الأفراد الذين يسعون جاهدين للوصول إلى إمكاناتهم الكاملة وتحقيق هدفهم الفريد، مدفوعين برغبة فطرية في تطوير ذواتهم”. ويرتبط المصطلح بشكل خاص بـ Abraham Maslow الذي نظر إلى عملية السعي نحو تحقيق الإمكانات الكاملة باعتبارها أمراً أساسياً، ولكن لا يمكن الحصول عليها إلا بعد تلبية الاحتياجات الأساسية للبقاء الجسدي والسلامة والحب والانتماء والتقدير. “

نظرية تحقيق الذات

تؤكد نظرية تحقيق الذات الدافع الفطري للأفراد للوصول إلى إمكاناتهم الكاملة.

سلط Kurt Goldstein الضوء على الطبيعة الشاملة لتحقيق الذات، والتي تشمل الرفاهية الجسدية والنفسية والاجتماعية.

اقترح Maslow تسلسلاً هرمياً للاحتياجات، وجعل تحقيق الذات أعلى مستوى، بينما ركز Rogers  على أهمية التطابق والتقدير الإيجابي غير المشروط في تعزيز النمو الشخصي.

مساهمة Kurt Goldstein في تحقيق الذات

على الرغم من أن مصطلح تحقيق الذات يرتبط بشكل كبير بـ Abraham Maslow، إلا أنه تم عرضه في الأصل من قبل Kurt Goldstein، وهو طبيب متخصص في الطب النفسي والتشريح العصبي خلال الجزء الأول من القرن العشرين.

رأى Goldstein أن تحقيق الذات هو الهدف النهائي لكل كائن حي ويعبر عن رغبة الإنسان في تحقيق الذات، وميل الفرد إلى أن يصبح محققاً لإمكاناته.

وأكد أن كل إنسان ونبات وحيوان لديه هدف فطري لتحقيق نفسه كما هو، وأشار إلى أن الكائنات الحية تتصرف وفقاً لهذا الدافع الشامل.

وفقاً لوجهة نظر Goldstein لم يكن تحقيق الذات بالضرورة هدفاً يجب الوصول إليه في المستقبل، بل كان ميلاً فطرياً للكائن الحي لتحقيق إمكاناته في أي لحظة في ظل ظروف معينة.

مساهمة Carl Rogers في تحقيق الذات

يعتقد خبير علم النفس الإنساني الأمريكي Carl Rogers أنه لا يمكن للمرء أن يحقق ذاته إلا من خلال وجود نظرة إيجابية عن نفسه (الاحترام الإيجابي للذات)، ولا يحدث ذلك إلا بعد الحصول على احترام إيجابي غير مشروط من الأشخاص المحيطين به.

ويرى أن تحقيق الذات ممكن فقط إذا كان هناك تطابق بين الطريقة التي يرى بها الفرد نفسه (الصورة الذاتية) ونفسه المثالية (الطريقة التي يريد أن يكون بها أو يعتقد أنه ينبغي أن يكون عليها).

إذا كانت هناك فجوة كبيرة بين هذين المفهومين، فسوف تنشأ مشاعر سلبية بقيمة الذات، مما يجعل من المستحيل تحقيق الذات. (Main,2023)

بالنسبة لـ Rogers، فإن الشخص الذي يمر بعملية تحقيق الذات، ويستكشف الإمكانات والقدرات بنشاط ويختبر التوافق بين الذات الحقيقية والمثالية هو شخص يعمل بكامل طاقته، ويرى أن بيئة الشخص ومن يتفاعل معه لها دور كبير في ذلك.

مساهمة Abraham Maslow في تحقيق الذات

كما فعل Goldstein، رأى Maslow أن تحقيق الذات هو تحقيق لإمكانات الفرد، إلا أنه وصف تحقيق الذات بشكل أضيق من Goldstein من خلال تطبيقه على البشر فقط، وليس على جميع الكائنات الحية.

أشار Maslow  إلى أن البشر لديهم احتياجات ذات ترتيب أدنى يجب تلبيتها بشكل عام قبل أن يتم إشباع احتياجاتهم ذات الترتيب الأعلى مثل تحقيق الذات. وقد صنف تلك الاحتياجات على النحو التالي:

1. الاحتياجات الأساسية:

أ. الاحتياجات الفسيولوجية (الماء والغذاء والدفء والراحة).

ب. احتياجات السلامة (السلامة والأمن).

2. الاحتياجات النفسية.

أ. احتياجات الانتماء (العلاقات الوثيقة مع الأحباء والأصدقاء).

ب. احتياجات التقدير (الشعور بالإنجاز).

3. احتياجات تحقيق الذات (إدراك إمكانات الفرد الكاملة).

تحقيق الذات هو المرحلة الأخيرة من هرم Maslow للاحتياجات، لذلك لا يصل إليها كل إنسان.

بالنسبة لـ Maslow، يعني تحقيق الذات الرغبة في الوصول إلى كمال الذات، أو ميل الشخص إلى التحقق فيما هو محتمل.

قد يدرك الأفراد هذه الحاجة أو يركزون عليها بشكل محدد للغاية، على سبيل المثال قد يكون لدى أحد الأفراد رغبة قوية في أن يصبح والداً مثالياً، وفي حالة أخرى يمكن التعبير عن الرغبة اقتصادياً أو أكاديمياً أو رياضياً، وبالنسبة للآخرين يمكن التعبير عنها بشكل إبداعي في اللوحات أو الصور أو الاختراعات.

اعترف Maslow بالندرة الواضحة للأشخاص الذين حققوا ذاتهم، وجادل بأن معظم الناس يعانون من أمراض نفسية طبيعية، وبالتالي فإن منظور Maslowأكثر اتساقاً مع النظرة الإيجابية للطبيعة البشرية، التي ترى الأفراد مدفوعين لتحقيق إمكاناتهم. (Main,2023)

أمثلة على تحقيق الذات

يمكن أن تختلف أمثلة تحقيق الذات بشكل كبير من شخص لآخر لأنها تنطوي على السعي لتحقيق النمو الشخصي وتحقيق الذات بما يتماشى مع قيم الفرد وتطلعاته الفريدة.

بعض الأمثلة قد تشمل:

  • متابعة شغف أو هدف إبداعي، مثل الرسم أو الكتابة أو العزف على آلة موسيقية.
  • تحديد وتحقيق أهداف ذات معنى تتماشى مع القيم والتطلعات الشخصية.
  • الانخراط في أعمال اللطف والإيثار للمساهمة في رفاهية الآخرين.
  • السعي إلى التطوير الشخصي من خلال التعلم المستمر واكتساب مهارات جديدة.
  • اتخاذ الخيارات والقرارات التي تعطي الأولوية للسعادة الشخصية والرفاهية بدلاً من التحقق الخارجي.
  • احتضان وتقبل الذات بشكل كامل، بما في ذلك نقاط القوة والضعف.

خصائص الأفراد الذين يحققون ذاتهم

بنى Maslow نظريته على دراسات حالة لشخصيات تاريخية اعتبرها أمثلة لأفراد حققوا ذاتهم، وقد قام بدراسة حياة كل واحد من هؤلاء الأشخاص من أجل تقييم الصفات المشتركة التي قادت كل منهم إلى تحقيق ذاته.

بناءً على وصف Maslow لمن يحققون ذواتهم، يمكن للمرء أن يجد العديد من أوجه التشابه المذهلة التي يشترك فيها هؤلاء الأفراد الذين يفترض أنهم حققوا ذاتهم.

بعض هذه الخصائص التي تميز الأفراد الذين حققوا ذاتهم عن بقية البشرية هي كما يلي:

يتقبل الأشخاص الذين يحققون ذاتهم الآخرين كما يتقبلون عيوبهم، وغالباً ما يكون ذلك بروح الدعابة والتسامح. لا يقتصر الأمر على أن الأشخاص الذين يحققون ذواتهم يقبلون الآخرين بشكل كامل فحسب، بل إنهم أيضاً صادقون مع أنفسهم بدلاً من التظاهر من أجل إقناع الآخرين.

– يميل الأشخاص الذين يحققون ذاتهم أيضاً إلى أن يكونوا مستقلين وواسعي الحيلة: فهم أقل عرضة للاعتماد على السلطات الخارجية لتوجيه حياتهم.

– يمكنهم تنمية علاقات عميقة مع الآخرين.

الميل إلى التعبير عن الامتنان والحفاظ على التقدير العميق حتى للنعم العادية في الحياة.

– التمييز بين السطحي والحقيقي عند الحكم على المواقف.

– نادراً ما يعتمدون على بيئتهم أو ثقافتهم لتكوين آرائهم.

– الميل إلى النظر إلى الحياة كرسالة تدعوهم إلى هدف يتجاوز أنفسهم.

كيف تصل إلى تحقيق الذات؟

كن متقبلاً: اعمل على أن تصبح أكثر قبولاً لنفسك وللأشخاص من حولك. في حين أن الانزعاج من الأشياء التي قد تغيرها أو تفعلها بشكل مختلف أمر سهل، حاول أن تنظر إلى كل شخص وموقف بلطف.

ممارسة اليقظة الذهنية: اليقظة الذهنية هي ممارسة تتضمن تعلم التركيز على اللحظة الحالية بدلاً من العيش في الماضي أو التخطيط للمستقبل. يمكن أن يساعدك الوعي التام على أن تصبح أكثر وعياً بنفسك وبالعالم من حولك.

اعمل على أن تكون متعاطفاً: إن إظهار التعاطف والرحمة للآخرين أمر مهم لتحقيق الذات؛ فالأشخاص الذين يصلون إلى قمة هرم Maslow يهتمون بالآخرين. يمكنك العمل على بناء تعاطفك من خلال تخيل نفسك في مواقف الآخرين، والتطوع لأسباب تساعد في تحسين العالم، والبحث عن طرق لجعل مجتمعك المحلي مكاناً أفضل للعيش فيه.

ممارسة الانفتاح: يمكن للأشخاص الذين حققوا ذاتهم أن ينظروا إلى العالم بأفكار جديدة، ويفكروا في وجهات نظر أخرى، ويتعاملوا مع العالم بعقل منفتح. تعلم كيفية تنمية الشعور بالانفتاح يمكن أن يساعدك على تعلم أشياء قد تفوتك عن العالم وعن نفسك. (Cherry, 2023)

خاتمة:

يجب ألا ينسى الناس أن تحقيق الذات هو عملية مستمرة، وليست نقطة نهاية، ولا ينبغي لأحد أن يوقف هذه الرحلة عند أي نقطة. يمكن للمرء أن يطور تحقيق الذات حتى بدون تطوير الخصائص المذكورة أعلاه، أو يمتلك جميع الخصائص المذكورة أعلاه ولا يزال يفتقر إلى تحقيق الذات.

المراجع:

وسوم

عن الكاتب

مركز مداد للدراسات والبحوث التربوية

مركز بحثي يختص بالعلوم التربوية والنفسية، والاستشارات الاجتماعية والتنموية، في جوانبها النظرية والتطبيقية، ويعنى باحتياجات المجتمع سواء داخل سورية أو في بلدان اللجوء

اقرأ لـ مركز مداد للدراسات والبحوث التربوية

اقرأ ايضاً عن علم النفس