التعلم العرَضي؛ التعلم دون محاولة التعلم

في عالمنا اليوم، حينما نفكر في التعلم، غالباً ما نتخيل الكتب والصفوف الدراسية والمدارس، إلا أن هناك نوعاً آخر من التعلم، ينمو تدريجياً في أعماق عقولنا، ويحدث بشكل غير مقصود وبدون جهد مباشر منا؛ إنه ما نسميه بالتعلم العرَضي. هذا النوع من التعلم يشبه بعض الشيء تلك اللحظات عندما نكتشف أننا أصبحنا ملمين بمعلومة جديدة دون أن نكون قد بذلنا جهداً واضحاً.

في هذا المقال سنستكشف بشكل أعمق مفهوم التعلم العرَضي وكيف يمكن لهذه العملية أن تؤثر في حياتنا بطرق متعددة، ونستعرض أمثلة عديدة على التعلم العرضي وكيف يمكن للفرد تعزيز هذا النوع من التعلم لتحقيق فوائد أكبر في حياته.

ما هو التعلم العرَضي؟

وفقاً لـ    Pablo Camacho في مجال علم النفس المعرفي يشير مصطلح “عرَضي” إلى الظواهر اللاواعية، عكس مصطلح “مقصود” الذي يستخدم للإشارة إلى العمليات الواعية، وفي إطار التعلم نتصور أن التعلم العرَضي هو اكتساب المعرفة دون الوعي بتعلمها، ومع ذلك فإن معظم المحاولات لتعريف هذه الظاهرة تترافق مع تصورها بطريقة أوسع، ليس فقط لتسليط الضوء على الطبيعة اللاواعية للتعلم، ولكن أيضاً على غياب النية للتعلم.

يتأثر التعلم العرضي إلى حد كبير بالمعرفة السابقة ويكون أسهل إذا كانت المعلومات مرتبطة بالموضوع محل الاهتمام. ويعتبر التعلم العرضي في مرحلة الطفولة شكلاً شائعاً من أشكال التعلم؛ كتعلم اللغة والمهارات الاجتماعية. عند الأطفال ركزت بعض الأبحاث على التعلم العرضي من خلال وسائل الإعلام، وأظهرت كيف يتعلم الأطفال السلوكيات والمواقف والقيم والمعلومات المعرفية، من خلال مشاهدة البرامج التلفزيونية والإعلانات التجارية. أبحاث مماثلة على موضوعات تهم البالغين ذكرت أن للتعلم العرضي دوراً في تعلم بعض المعلومات، ولكن يعطي تغيرات أقل أهمية في المواقف والسلوكيات، بمعنى أن التعلم العرضي يغدو أكثر تعقيداً للتحقيق مع الأشخاص البالغين بسبب دور المعرفة السابقة.

ولهذا نقول إن التعلم عرَضيٌ إذا توفر فيه شرطان: التعلم بغير قصد، والقيام به دون علم بالتعلم. على العكس من ذلك سيكون التعلم واضحاً عندما يتم التعلم عن قصد. (Camacho, 2018)

وتظهر الأبحاث أن التعلم العرضي يحدث دون وعي، ولكن له حدوده ومتطلباته الأساسية مثل أن يكون التعلم صغيراً وتراكمياً. (Ahmed, 2017)

الفرق بين التعلم العرَضي والتعلم المقصود

يشرح الدكتور Itamar Shatz الفرق بين التعلم العرَضي والتعلم المقصود؛ بأن التعلم المقصود هو التعلم الذي يحدث نتيجة للأنشطة التي يكون فيها التعلم هدفاً متعمداً، وغالباً ما يكون أساسياً، للمتعلم. على سبيل المثال الشخص الذي يقرأ المقالات البحثية من أجل فهم ظاهرة علمية ما ينخرط في التعلم المقصود، في حين أن التعلم العرَضي لا يفعل ذلك. وفقاً لذلك يشار أحياناً إلى التعلم العرَضي على أنه التعلم غير المقصود.

لا يعتبر أي من نوعي التعلم أفضل بطبيعته؛ بل كل نوع له مميزاته وعيوبه، وقد يكون أكثر فائدة لأشخاص مختلفين في ظل ظروف مختلفة. على سبيل المثال في الحالة التي يحتاج فيها المحترف في بعض المجالات إلى فهم موضوع تقني عميق بسرعة فمن المرجح أن يكون التعلم المقصود أفضل. على العكس من ذلك في الحالة التي يحتاج فيها الفرد غير المتحمس نسبياً إلى تحسين بعض المهارات الحياتية ببطء مع مرور الوقت، قد يكون التعلم العرَضي أفضل. (Shatz, 2023)

خصائص التعلم العرضي

السمة المميزة للتعلم العرضي هي عدم وجود نية للتعلم من قبل المتعلم، وبخلاف ذلك يمكن أن يختلف التعلم العرضي بعدة طرق مثل ما يلي:

دافعية المتعلمين؛ من حيث ما إذا كان المتعلمون لديهم دافعية أو عدم دافعية للتعلم.

وعي المتعلمين؛ من حيث ما إذا كان المتعلمون على علم بالتعلم أم لا.

الوعي الخارجي؛ من حيث ما إذا كان الأشخاص الآخرون، كأولياء الأمور أو المعلمين، على علم بالتعلم أو غير مدركين له.

التوجيه الخارجي؛ من حيث ما إذا كان الأشخاص الآخرون، كأولياء الأمور أو المعلمين، يوجهون عملية التعلم على سبيل المثال من خلال تقديم التشجيع أو طرح الأسئلة. (Shatz, 2023)

أمثلة على التعلم العرَضي

  • في سياق اكتساب اللغة؛ الشخص الذي يتعلم كلمات جديدة من خلال مشاهدة التلفزيون بلغة أجنبية من أجل المتعة.
  • طفل صغير يلمس شيئاً ساخناً بدافع الفضول، ويعلم أن القيام بذلك مؤلم.
  • طفل يلعب مع الأطفال الآخرين من أجل المتعة، ويتعلم المهارات الاجتماعية.
  • الشخص الذي يشاهد برنامجاً تلفزيونياً تاريخياً من أجل الترفيه، ويتعرف على حقائق جديدة.
  • المعلم الذي يتفاعل مع الطلاب كجزء من عمله، ويتعلم كيفية التواصل بشكل أكثر فعالية.
  • رجل أعمال يقرأ كتاباً خيالياً للاسترخاء ويتعلم طرقاً جديدة لتحسين أعماله.

كيف تتعلم بشكل غير مقصود؟

نظراً لأن التعلم العرَضي غير مقصود، فمن المستحيل تقنياً الانخراط فيه عن قصد، ومع ذلك، من منظور عملي، يمكنك استخدام التعلم العرَضي من خلال وضع نفسك في مواقف يمكنك فيها التعلم دون محاولة التعلم بشكل فعال؛ على سبيل المثال إذا كنت ترغب في تعلم لغة جديدة ولكنّ تعلُّمها من خلال دورة تدريبية قد يشعرك بالملل، فيمكنك استخدام التعلم العرَضي بدلاً من ذلك؛ من خلال الانخراط في الأنشطة الترفيهية التي تتضمن اللغة، مثل لعب ألعاب الفيديو والتعلم، ومشاهدة البرامج التلفزيونية دون بذل مجهود فعال للتعلم.

كيفية تعزيز التعلم العرَضي عند الآخرين

هناك عدة طرق يمكنك من خلالها تعزيز التعلم العرَضي لدى الآخرين في حال إذا كنت معلماً أو أحد الوالدين:

  • مساعدة الناس على الانخراط في التعلم العرَضي: على سبيل المثال إذا كان الطفل في موقف قد يتعلم فيه شيئاً جديداً، فيمكنك أن تطرح عليه أسئلة إرشادية لمساعدته على التفكير فيما يحدث.
  • قم بتوجيه الأشخاص إلى المواقف التي يمكنهم من خلالها المشاركة في التعلم العرَضي: على سبيل المثال إذا كنت تريد مساعدة شخص ما على تنمية مفرداته يمكنك تشجيعه على قراءة كتاب من شأنه أن يساعده. أظهرت الأبحاث أن متعلمي اللغة الثانية يحتاجون إلى معرفة ما بين 3000 إلى 9000 كلمة لتحقيق فهم معقول لأنواع مختلفة من المحادثات. وقد يكون تدريس كل هذه الكلمات بشكل صريح داخل الفصل الدراسي مهمة شاقة للغاية، لذلك من الضروري تحديد مصادر مدخلات اللغة الثانية التي يمكن تعلم الكلمات منها بشكل عرَضي، على سبيل المثال من خلال الاستماع إلى الأغاني ومشاهدة البرامج التلفزيونية.
  • حث الناس على الانخراط في التعلم العرَضي: على سبيل المثال يمكنك أن تشرح لشخص ما عن التعلم العرَضي، ولماذا هو مفيد، وكيف يمكنه المشاركة فيه حتى يتمكن من القيام بذلك بمفرده.

هناك العديد من التقنيات التي يمكنك استخدامها للمساعدة في هذه الأساليب لتعزيز التعلم العرَضي:

يمكنك أحياناً الاستفادة من استخدام علم النفس العكسي؛ والذي يتضمن حث الأشخاص على القيام بأشياء من خلال حثهم على القيام بعكسها. يمكن أن يكون هذا مفيداً، على سبيل المثال، إذا كنت تعلم أن شخصاً ما لديه معلومات خاطئة تماماً عن شيء ما، لكنه يرفض الاستماع إلى ما تريد قوله، لذا يمكنك مطالبته بمحاولة العثور على أدلة تثبت خطأك.

وبالمثل يمكنك الاستفادة من تأثير البروتيج Protégé Effect، وهي ظاهرة نفسية حيث يساعد التدريس أو التظاهر بالتدريس أو الاستعداد لتعليم المعلومات للآخرين الشخص على تعلم تلك المعلومات. يمكن أن يكون هذا مفيداً، على سبيل المثال، في الموقف الذي تشجع فيه طالباً موهوباً ولكن غير مهتم على تدريس طلاب آخرين في الفصل كوسيلة لجعل الطالب الموهوب يحسن فهمه للمادة.

وجدير بالذكر أنه يمكننا الجمع بين التعلم العرَضي والتعلم المقصود؛ ويمكن أن يكون هذا مفيداً عندما نستخدم التعلم المقصود في البداية، لتعلم المفاهيم الأساسية، ثم استكمال ذلك بالتعلم العرَضي لاستيعاب تطبيقات تلك المفاهيم.

ختاماً

ندرك أن المعرفة ليست مقتصرة على المكان أو الزمان، بل هي في متناول أيدينا في كل لحظة. إن التعلم العرضي يذكرنا بأن كل تفاصيل حياتنا يمكن أن تكون فرصة لاكتساب المعرفة والتطور، إنه يظهر لنا أن الفضول والمثابرة في التعلم يمكن أن تصنع فرقاً كبيراً في توسيع آفاقنا وتحسين حياتنا.

المراجع:

وسوم

عن الكاتب

مركز مداد للدراسات والبحوث التربوية

مركز بحثي يختص بالعلوم التربوية والنفسية، والاستشارات الاجتماعية والتنموية، في جوانبها النظرية والتطبيقية، ويعنى باحتياجات المجتمع سواء داخل سورية أو في بلدان اللجوء

اقرأ لـ مركز مداد للدراسات والبحوث التربوية