الحسرة الوجودية
هشام الشيخ
مايو 19, 2023
9 دقائق
هشام الشيخ
مايو 19, 2023
9 دقائق
في بيئة الطوارئ والحروب يكون نمط الحياة غير مستقر، ويترتب علينا اتخاذ قرارات سريعة نتيجة التحديات والضغوط التي نواجهها، إضافة لوجود نقص في احتياجات العيش الأساسية والأمان، والذي بدوره قد يجعل أحدنا يفكر لماذا نحن موجودون حتى نعيش هذه المعاناة، ويتحسر على قرار سابق اتخذه، هنا سنحاول فهم هذه الحالة من خلال طرحنا لموضوع الحسرة الوجودية، إذ سنحاول الإجابة عن تعريفها ومضامينها، وكيفية التعامل معها.
قبل البدء بفهم وتحليل المفهوم لابد لنا من التطرق لكل من مفهوم الحسرة والوجودية:
فالحَسْرة في المعجم الوسيط (كما ورد في المعاني، د. ت): شدَّة التلهُّف والحزْن. وفي التنزيل العزيز: سورة (يس) آية 30 (يا حَسْرَةً عَلَى العِبَادِ مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ). ويقال: واحسرتا، ويا حسْرتا. وفي التنزيل العزيز: (الزمر) آية 56 (يا حَسْرَتَا عَلى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللهِ) (الفقرة.1).
والحسـرة تشير إلـى مسـتوى عميق مـن النـدم كحالـة انفعالية، مضـافًا إليه أبعـادًا معرفية تتمثـل فـي إدراك الشـخص فداحـة التفريط فـي حـق الـذات وحـق الآخرين، وإدراك كـم الخسـارة الشخصية التـي لحقـت بالشـخص نتيجة تفويته فـرص ترقية ذاتــه وتجويد نوعية حياته، وصــعوبة تدارك هــذا الأمــر فــي الحاضــر أو المستقبل (أبو حلاوة، 2013، ص.326).
في حين تشير الحسرة حسب كلاً من فان وديجيك Van & Eilenberg, Dijk ( كما ورد في العبيدي، 2022) بأنها: حالة معرفية وجدانية تتضمن تقييماً سلبياً للذات، ورد فعل انفعالي سلبي من قبل الإنسان تجاه تصرفاته وسلوكياته في الماضي، ولإدراكه ندرة فرص الارتقاء التي يحملها المستقبل له، فضلاً عن نقص القدرة على استثمارها حال وجودها، وتتضمن هذه الحالة مشاعر الحزن والخزي والذنب والضيق الانفعالي، والاستياء من الذات عقب ارتكاب الشخص لتصرفات وسلوكيات ما كان يتعين عليه الإتيان بها، أو عقب تفريطه في القيام بتصرفات وأفعال كان يتعين عليه الإتيان بها، والحسرة انفعال متمايز عن الشعور بالذنب، إذ يمثل الشعور بالذنب الصيغة الانفعالية العميقة لها، وهنا تكون الحسرة الوجودية رد فعل نفسي لفشل الفرد في اختيار بدائل سلوكية، أو في اتخاذ قرارات تتسق مع قيمه واعتقاداته ورؤاه للحياة فيما مضى من حياته، مع شعوره بتعذر تدارك هذه البدائل مرة أخرى في الحاضر أو في المستقبل (ص.412).
وقد اعتبر لويس Lewis (كما ورد في جبار، 2020) حالة الحسرة بأنها ألم نفسي شديد، ناتج عما ارتكبه الفرد مع نفسه أو أسرته أو أصدقائه، مخالفاً لمعتقداته ومبادئه وأهدافه وللقيم الاجتماعية للمجتمع الذي يحيط به (ص.7).
يشير علي (2015) إلى أن الوجودية تنسب إلى الوجود، وهو في أصله اللاتيني مشتق من مقطعين هما Ex ويعني الخروج، والثاني Ster، ويعني البقاء في العالم، ثم انتقل اللفظ إلى اللغات الأوروبية بما يحتوي عليه من شحنة تعبيرية وما يرمز إليه من فكر، فدل على الخروج من الشيء. وفي اللغة العربية يدل لفظ “الوجود” على معنى “الحضور”، ثم نقل إلى معنى آخر هو “الكون” أو “العالم”، فأصبح لفظ “الوجود” رمزاً اجتماعياً لـ “الكون” بكل ما فيه، لأن الكون يفيد دائماً وفي أي مفهوم معنى الحضور، أي المثول وعدم الغياب عن البصر أو البصيرة، ثم نقل اللفظ إلى الفرد فلم يعد مقصوراً على الكون، لأن الإنسان رمز للكون ودليل على قيامه، ومن جانب آخر فإن المثول وعدم الغياب ينصرفان بادئ ذي بدء إلى الفرد حين يراد إثبات حضوره، ومن ثم يقال إنهم وجود، ويستفاد من ذلك أن لفظ الوجود في اللغة العربية، بدلالته الكلية (الكون) أو الجزئية (الفرد) يتضمن نفي الاستغلاق، ويفيد معنى الإحالة المتبادلة بين الجزئي والكلي أي بين الفرد والعالم، فوجود الكون يعني حضوره في العالم، ووجود الكون يعني حضوره بإزاء الفرد. أما الذات المغلقة التي لا إحالة بينها وبين الوجود الكلي، فهي ذات وهمية لا يمكن أن تكون، وبالتالي لا يمكن أن توجد (ص.35).
وإن أحد أهم مساهمات مارتن هايدجر Martin Heidegger’s (كما ورد في Robert, Stolorow، 2015) في الفلسفة الوجودية هو تأكيده على الدور المركزي للعاطفة أو الانفعال في الكشف عن السمات التأسيسية لوجود الإنسان، وعلى سبيل المثال، فإن تجربة القلق الوجودي، وفقًا له، تكشف عن امتلاك أصيل لـ “الوجود تجاه الموت” لمحدوديتنا الزمنية كأساسيات فهمنا لأنفسنا ((para.1.
بحسب علوش (1985) فالوجود فكرة فلسفية قديمة نشأت مع الفكر الإنساني منذ بدأ ما يعرف بالفلسفة، حيث وصلت مشكلة (الوجود) وقد نوقشت مع البوادر الأولى للتفكير الإنساني (ص.11).
فالوجودية كما يشير علوش (1985) هي تيار فلسفي اتخذ من الوجود منطلقاً لتأصيل وجوده، ونحن نسميه تياراً لأنه لم ينجح أن يكون فلسفة أو مذهباً وإنما هو اتجاه يعبر عن وجهة نظر أصحابه (ص.15).
وتوصف الحسرة حسب إيلسون وروبن Elaison, Mannarino & Rubin)) ( كما ورد في أبو حلاوة، 2013) عــادة حســب محتواهــا أي وفقاً للموضــوع المتحســر علیــه أو المنصب علیه الشعور بالحسرة، وبالتالي وصف الحسرة بتعبير “الوجودیـة” معنـاه تلــك الحســرة الناشــئة عــن فشــل الشــخص فــي تحقيق ذاتــه وترقيتها وفقاً لتصــوره لمعنى الحیاة والهدف منها، بالمعنى المتعارف علیه فـي المنظـور الوجـودي فـي علـم النفس الذي يركز على نظم طبيعة العلاقة بین مركب الماهية الوجـود بالتسليم أن وجــود الإنســان ســابق لماهيته، وأن ماهية الإنســان دالة فــي طابعهـا الاجمالي لاختياراته وقراراتـه فـي الحیـاة ولصـورة الحیـاة التي يبتغها (ص.302).
تشير الحسرة الوجودية حسب أبو حلاوة (2013) بأنها حالة معرفية وجدانية تتضمن الشـعور باليأس والـذنب والقلــق، يخبرها الإنســان لتضييعه فرص الارتقاء بذاته، ولفشله في تحقيق إمكاناته الذاتية فـي الحياة، وتتضـمن رغبة عميقة من قبل الشخص في الارتداد للماضي لتغير خبراتـه التـي فشـل فـي اختيار القــرارات السلوكية الصحيحة للتعامــل معهــا، أو لتصحيح فشــله فــي اختيار ســلوكي لا يتسق مع اعتقاداته وقيمه أو حاجاته للارتقاء والتطور الشخصي وتصـوراته الشخصية لمعنى الحياة وغاياتها (ص.336).
وعرفها فرانكل Frankle (كما ورد في جبار، 2022) بأنها تركيب نفسي يتضمن أبعاداً متفاعلة فيما بينها الصراع الداخلي، ومحدودية الخبرة، مع إهمال الآخرين، وتأنيب الذات، والانفصال عن الماضي، وترتبط هذه الأبعاد لتكون بمجملها حالة الحسرة الوجودية والتي تسبب التألم والضيق الانفعالي الموهن لإرادة الحياة (ص.626).
وتم تعريف الحسرة الوجودية في ورقة للدكتور ماريجو لوكاس Marijo, Lucas (كما ورد في Jack, Busch، 2022) بأنها رغبة عميقة في العودة وتغيير تجربة سابقة فشل فيها المرء في الاختيار بوعي أو اتخذ خياراً لا يتبع معتقدات الفرد أو قيمه أو احتياجاته التنموية (para.2).
لقد أعطى النموذج الاقتصادي حسب بيل Bell (كما ورد في العبيدي، 2022) تفسيراً للحسرة الوجودية في نظرية صناعة وتبرير القرار، من خلال الندم الذي يتولد لدى الفرد نتيجة شعوره بأن عمله أو مشاعره لم تقدر من قبل الآخرين، وبالتالي تكونت لديه صدمة وخيبة التوقع والحسرة لما وصل إليه، ويستطيع هذا الفرد تجاوز كل ما سبق ذكره من مشاعر سلبية بإعادة تقييم لذاته والإتيان بسلوكيات بديلة مع الآخرين (ص.413).
أما أنصار النموذج الوجودي كما يشير جيلبيرت وآخرون Gilbert, et al (كما ورد في العبيدي، 2022) فقد فسروا الحسرة الوجودية مرتبطة بالاختيار الحر والإرادة الحرة، وما يتبع هذه الإرادة بالضرورة من مسؤولية شخصية تعكس قدرة الفرد بالجدارة والاقتدار على الضبط السببي لأفعاله، وبالتالي فإن أي تفريط في ذلك يؤدي الى لوم الذات وتأنيبها، أي بما معناه الحسرة الوجودية عند مراجعة الفرد لأعماله وتصرفاته، وما وصل اليه وما كان ينبغي أن يصل إليه في تحقيق أهدافه وطموحاته، وهذا كله نتيجة تقصيره وفشله في اتخاذ القرارات الصائبة التي كان ينبغي اتخاذها لتحقيق أهدافه في الحياة، ونتيجة لذلك يشعر الفرد بالانكسار الداخلي وبالحسرة وضعف تقديره لذاته وتوهن عزيمته على مواصلة مسيرته الحياتية عند الموازنة بين نواتج اعماله وما وصل إليه وما كان ينبغي أن يكون عليه (ص.413).
وطرح (فرانكل) Frankl (كما ورد في جبار، 2022) أنموذجاً نظرياً لمفهوم الحسرة الوجودية في أواخر القرن التاسع عشر، بوصفه صيغة متمايزة من الحسرة الموجهة نحو الذات، والتي أوضح بأنها حالة تحقق للفرد شعوراً بالاختلال في الجانب المعرفي، بسبب الاستغراق في ألم الماضي نتيجة لضياعه فرصاً وبدائل لم يغتنمها سابقاً، مما أدى إلى عدم توافق الفرد نفسياً واجتماعياً مع بيئته المحيطة به، وبذلك أصبح كثير الانتقاد لذاته، لتجاهله وعدم الاندفاع لخيارات أُتيحت له، والتي تصب في مسار ترقية حياته وتحقق ذاته على المستوى الشخصي والاجتماعي، وبين (فرانكل) أن الحسرة الوجودية تركيب نفسي يتضمن أبعاداً متفاعلة تمثلت بالصراع الداخلي المعرفي، والانفعالي الذي استهدف غرضين أساسيين هما التخلص من الماضي وأحداثه والابتعاد عنه، والإقبال على الحياة بإرادة وتفهم لإيجاد المعنى الحقيقي فيها، وهذا الصراع قد يخلق نوعاً من عدم التكيف النفسي للفرد، ويسعى إلى إحداث تغيير في سلوكه، أو بنائه النفسي من أجل صنع علاقة ايجابية بينه وبين البيئة، ولمواجهة صعوبات الحياة ومشاكلها المتعددة، وإعادة التوازن إلى النفس البشرية (ص. 628).
يشير أبو حلاوة (2013) أن الحسرة الوجودية تتضمن ست خطوات أساسية تتطابق في ملامحها مع خطوات التعامل مع الصدمات الحياتية وتتمثل في الآتي:
حسب اليثيا وصوفيا Aletheia & Sophia (2013) إن ممارسة الحرية الوجودية مسعى صعب، وأحياناً مؤلم. فالقلق يصيب الفترة التي تسبق اتخاذ القرار، والشك بعد اتخاذ القرار، والحسرة تكون عندما يتضح أننا قررنا بشكل خاطئ، وفي النهاية لن نعرف أبداً ما إذا كان القرار الذي اتخذناه هو القرار الصحيح أو أفضل قرار حتى نهايته، والتي في بعض الأحيان قد لا تأتي أبداً حتى نتقدم في السن ونحتضر. وإن العيش بسوء نية أو عدم مصداقية ليس سيئاً لمجرد قلق الحرية، إنه أمر سيء بسبب اللامسوؤلية تجاه الملكية، فالأشخاص الذين يعيشون بسوء نية ليسوا مستعدين لتحمل المسؤولية عن حياتهم لتولي ملكية وجودهم، ما يجعل ممارسة حريتنا ثم الحسرة أفضل من عدم ممارستها، والحسرة هي أنه في السابق يتم تحمل المسؤولية وتأكيد وجود المرء، فعلى الرغم من أنني اتخذت القرار الخاطئ وأنني ندمت عليه الآن، فقد كان هذا على الأقل قراراً اتخذته وسأعيش مع عواقب القرار. وبالمقارنة، فإن هذا الأخير يأسف لفقده فرصة الاختيار والاضطرار الآن إلى التعايش مع العواقب الناتجة عن قوى أو تأثيرات خارجية، لذلك نرى أن هناك نوعين من الحسرة:
وإلى ذلك يشير ماريجو لوكاس Marijo, Lucas (2016) في دراسته (الحسرة الوجودية: مفترق طرق للقلق الوجودي والذنب الوجودي)، إذ عرّف الحسرة الوجودية على أنها رغبة عميقة في العودة وتغيير تجربة سابقة، فشل فيها المرء في الاختيار بوعي، أو اتخذ خياراً لا يتبع معتقداته أو قيمه أو احتياجاته التنموية، لذلك يعاني الشخص من مزيج من القلق الوجودي والذنب الوجودي، ينبع القلق الوجودي من المواجهة مع المعطيات الوجودية، بما في ذلك محدودية الخيارات السابقة، وعدم القدرة على تغيير الماضي، ومحدودية الحرية في الماضي مع الحسرة الوجودية، فإن موضوع الحسرة هي تجربة فَشل فيها المرء في اتخاذ قرار واع وصادق، وبدلاً من ذلك اتخذ خياراً في لحظة سوء النية أو الافتقار إلى الحضور الحقيقي والذاتية، إن إحساس المرء بأنه تخلى عن الذات وخيانتها، وبالتالي يشعر بالذنب الوجودي العميق. قد يتبع ذلك شلل في العمل والاختيار.
حسب مؤسسة كليفلاند كلينك clevelandclinic (2020) هناك العديد من الأشياء التي يمكنك القيام بها للتغلب على أزمة وجودية.
إذا استمرت هذه المشاعر لأكثر من شهرين أو أدت إلى اكتئاب لا يمر أو مشاعر انتحارية، فاطلب المساعدة من مراكز الصحة النفسية، من المهم وجود شخص ما لمساعدتك على التعامل مع هذه المشاعر.
وهذا مشابه لما يحدث عندما يضع الشخص كل طاقته في علاقة ثم يحصل الطلاق، فيكون بحاجة إلى استعادة التوازن من خلال التركيز بشكل أكبر على أصدقائه وحياته المهنية، لأن التوازن بين جميع جوانب حياتنا يمكن أن يجعلنا مستمرين عندما يتعثر جزء واحد.
تعد الحسرة الوجودية خبرة إنسانية، وهي حالة نفسية تنطوي على إهمال للذات والآخرين، مع الصراع الداخلي والانفصال عن الماضي، مما يسبب معاناة انفعالية وفقداً لمعنى للحياة، تنتج الحسرة الوجودية بسبب عدم ضبط الفرد أفعاله تبعاً لمبدأ الجدارة والاقتدار المقترن بالاختيار الحر والإرادة الحرة، أو نتيجة الصراع حول غرضين هما: الماضي وأحداثه والابتعاد عنه، والإقبال على الحياة بإرادة وتفهم لإيجاد المعنى الحقيقي فيها، وترتبط الحسرة الوجودية في قضية اتخاذ القرار وعواقبه، ويمكنك التعامل معها من خلال أهمية إعادة ترتيب أولوياتك وتنمية الوعي حول مصادر القوة لديك، إضافة لطلب المساعدة عند الشعور بالحاجة لذلك.
https://www.psychologytoday.com/us/blog/feeling-relating-existing/201505/heartbreak
https://doi.org/10.1177/0022167803259752