نمو ما بعد الصدمة
ابتسام كوربلال
نوفمبر 19, 2022
4 دقائق
ابتسام كوربلال
نوفمبر 19, 2022
4 دقائق
يعد نمو ما بعد الصدمة من المصطلحات الحديثة في علم النفس وخاصة الإيجابي، حيث اقترح هذا المصطلح عالم النفس ريتشارد تيديشي، ويقصد به بشكل عام أن الضربة التي لا تقتلك من الممكن أن تقويك.
فإن تعرض الإنسان لحوادث صادمة مثل (فقدان عزيز، الإصابة بأمراض مهددة للحياة أو التعرض للعنف الجسدي والجنسي وغيرها من الأحداث) قد تنتج لديه مجموعة من العواقب السلبية مثل اضطراب ما بعد الصدمة، الاكتئاب، القلق، انخفاض تقدير الذات، انخفاض الثقة والصحة البدنية، وعلى الرغم من أن الصدمة يمكن أن تستدعي استجابة مرعبة ومنهكة، إلا أنها في بعض الحالات يمكن أن تكون حافزاً للتغيرات الإيجابية، وقد يؤدي إلى النمو والقوة والازدهار، ويحدث النمو عندما يكون الفرد قادراً على تحويل الصدمة واستخدام الشدائد لصالحه.
فقد أشارت دراسة كعبر(2017) إلى أن نمو ما بعد الصدمة يُظهر التغيرات الإيجابية وخاصة التي تطرأ على الذات، والمتمثلة بإعطاء الفرد معنى لحياته فكلما ارتفع مستوى نمو ما بعد الصدمة ارتفع معها معنى الحياة.
ويستهدف هذا المقال إعطاء توصيف أكثر لنمو ما بعد الصدمة كمتغير إيجابي يندرج ضمن مفاهيم علم النفس الإيجابي.
يعرفه بروان (2021): “بإن الصدمة التي يتلقاها الفرد تخلق لديه حاجة للنمو لمساعدته في مواجهة الشدائد، يمكن أن يؤدي إلى تغييرات إيجابية في الطريقة التي يتعامل بها الفرد مع الآخرين وزيادة الانفتاح على الاحتمالات، وتعزيز الإيمان بقدرة الفرد على التكيف والالتزام”. (ص.141)
كما يعرفها يونس (2018): “بأنها الوعي بمجموعة التغيرات الإيجابية المتنوعة التي يكتسبها المصدوم ويمارسها بعد تعرضه لصدمة ومعاناة وما تبع ذلك من ضغوط”. (ص.20)
يمكن النظر إلى نمو ما بعد الصدمة على أنه عملية صنع المعنى، تبدأ بإحساس بالضيق الشديد بعد حدث صادم، ويتبع ذلك «تحطيم» النظرة للعالم قبل الصدمة؛ كما لم يعد الناجي يشعر بأن المعتقدات المتعلقة بالنفس، ومصداقية الآخرين، والعالم بأنها صحيحة أو دقيقة، ومع ذلك، عندما يكون المرء على طريق نمو ما بعد الصدمة يمكن أن تؤدي الأفكار المتطفلة إلى مزيد من التفكير المعتمد حول الصدمة، وهذا التفكير يمكن أن يؤدي إلى تقليل الكرب وتوليد معنى جديد ومنظور حول حياة الأفراد وعلاقاتهم وأهدافهم وآمالهم وقيمهم. (Williston, 2017)
يتميز نمو ما بعد الصدمة ببعض الخصائص نوجزها بما يلي:
إن هذه الخصائص على اختلافها تعدّ ضرورية لإنتاج المعالجة المعرفية للأحداث الصدمية التي يخبرها الفرد، والتي تنشأ خلال تشكل نمو ما بعد الصدمة ما يسهم في تغيير وتقوية رؤيته حول الذات، والآخرين والعالم وكذلك نمط الحياة بشكل عام. (زكراوي، 2020)
يعدّ النموذج النظري للنمو ما بعد الصدمة لـ(تيديشي وكالهون، 2000) أكثر النماذج تحديداً ووصفاً لأبعاد نمو ما بعد الصدمة ومختلف التظاهرات المرتبطة بها، واعتبارها مصدراً لسلالم تقييمية له، كما تعبر عن مجموع التغيرات الإيجابية الناتجة عن أحداث وظروف صادمة، أسفرت عن مكوناتها دراسات عملية تم التحقق من خصائصها السيكو مترية في بيئات ثقافية ومجتمعات مختلفة، وعدّت عوامل مدعمة ومعززة لنمو ما بعد الصدمة، وتمثلت أبعاد هذا النموذج كما يلي:
تتمثل في الإحساس بجوانب قوة الشخصية، الثقة في الذات، الشعور بتغيرات إيجابية في إدراك الذات، القدرة على إدارة الضغوط ومواجهتها في مواقف الحياة المختلفة، وقد تكشف الصدمات عن جوانب غير عادية لدى الفرد.
يتمكن الفرد من إدراك الفرص الجديدة والفوائد المحتملة التي نتجت عن حدوث الصدمة، فقد تحمل الأزمات في طياتها فرصاً جديدة ترتبط بخبرات جديدة مكتسبة؛ علاقات، فرص عمل، وعليه أن يستكشف ذلك.
تتضمن حدوث تغيرات إيجابية عميقة في العلاقات مع الآخرين وإدراك أهمية وجود من حولنا وتقدير قيمتهم، وحماية الذات من التعرض للأسى من الآخرين، فيصبح الفرد أكثر تعاطفاً مع الآخرين وإحساساً بهم.
إن تعميق العلاقات الاجتماعية وفق هذا البعد يعدّ أحد جوانب نمو ما بعد الصدمة وأسبابه، كما يعدّ طريقة علاجية (توفير السند والدعم الإيجابي) تساعد على التنفيس الانفعالي، وتنشيط الذاكرة الانفعالية ليتحرر من ضغطها، ويعيد ترتيب الأفكار وتمثيلها واستيعاب تفاصيل ما حدث.
يتمثل في الشعور بتغير كبير في الحياة اليومية وكيفية التعامل معها، يزداد تقدير لحظات الحياة، والهدف منها والشعور بأهميتها مع ترتيب الأولويات والشعور بالمسؤولية، وإعطاء معنى وقيمة للحياة ما يؤدي إلى تقدير شامل لها.
حدوث تغير إيجابي في المعتقدات الروحية، من خلال تعميق الفهم وزيادة الإحساس بالمعنى والهدف، والإيمان وتعزيز القيم الدينية والمحافظة على المعتقدات الروحية، وقد يظهر في ضوء ذلك الالتزام سلوكيات دينية، بواجبات وقواعد الدين. (زكراوي، 2019).
تشير ليزا ميكاي إلى أن هناك بعض العوامل التي تساعد الأفراد على تحقيق النجاح في مواجهة المحن، فهي تحمي الأفراد من تأثيرات التجـارب المجهدة، وتساعدهم على التكيف مع التغيرات الناجمة عن الأحـداث المهمة في حياتهم، كما تدعم سرعة عودة الفرد إلى حالته الطبيعية، وتساعد الأشخاص بشكل عـام عـلـى العـودة إلى حالتهـم الطبيعية بسرعة أكبر وبصـورة كاملة بعد تعرضهم لصدمة كبيرة وهي:
القدرة على تأمين شبكة اجتماعيـة صحية وداعمة والحفاظ عليهـا هـي عوامل رئيسية للصحة الوجدانية والاستقرار النفسي.
النظرة المتفائلة والمشاعر الإيجابية المتكررة وتقدير الذات الإيجابي والإيمان بالذات هي صفات تدعـم قـوة الشخصية وقدرة المرء على العودة إلى حالته الطبيعية.
تشمل القوة الروحانية رؤية الفرد للنظام الأخلاقي وبحثه عن معنى وهدف للحيـاة وأمله في المستقبل. كما تشمل أحياناً الاعتقادات الدينية. وتمثـل القـوة الروحيـة بشـكـل عـام عـامـلاً فـعـالاً مـن عوامل الوقاية.
ولكـن هنـاك استثناءات، ومنهـا حـين تكون القوة الروحية لدى شخص ما ساذجة (غير مجربة و/ أو غير قوية البنـاء) أو حين يكون الشخص متزمتـاً في معتقداته الروحانية، ففي هذه الحالات، فإن الأشخاص الذين يتعرضون لحـدث صادم قد يكونون أكثر عرضة لتحطم نظرته المتصلبة إلى العالم وفقد الإحساس بمعنى وهدف الحياة والتصورات السلبية عن الذات وغير ذلك من المشكلات النفسية.
الميـل الطبيعي للبحـث عـن معنـى وهـدف في الأحداث، خاصة الأحداث المليئة بالإجهاد النفسي التي يصعب على الفرد التغلب عليها يعتبر عاملاً من عوامل الوقاية.
إن التفكير المنطقي يشمل إدراك الحالة العقلية للذات وللآخرين؛ مشاعر واحتياجات ورغبات واعتقادات وتوجهات وغير ذلك.
حب الاستطلاع والاستعداد لخوض تجارب جديدة تتعلقان بالقدرة على التكيف وقوة الشخصية وقدرة المرء على العودة إلى حالته الطبيعية.
سعة الحيلة والتمكن العقلي والقدرة العامـة هـي عوامـل وقاية. (يونس،2018، ص.29).
وبناء على ذلك قد يستطيع الإنسان إيجاد المعنى في الصدمة والأزمة التي يمر بها، فالحياة لا تصفو لأحد، وهي قائمة على الضغوطات والمعاناة، ولكل شخص فيها نصيب من الهم والحزن والظلم والابتلاءات بما يفوق طاقاته وقدراته، ولكن على الإنسان ألا يستسلم لها وعليه أن يتحلى بالفطنة ويحول “المحنة إلى محنة” ولا يخرج منها إلا وقد حقق إنجازات وانتصارات ومكاسب يفخر بها.